للأخلاق النبيلةِ هُنا رونقٌ آخر، مذاقُ الكرامةِ الذي لم نشهد لهُ مثيلًا مُنذُ سنواتٍ طويلة، إحساسُ الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسد بالسهرِ والحمّى، أتساءل فعلًا إن كان ما يحدثُ هنُا شيئًا شبيهًا بالتآخي بين المُهاجرين والأنصار في عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين هاجروا من مكةَ إلى المدينة!
هل يُعيدُ الغزيون بناءَ مجتمعِهم بروح التكافل هذه؟ وهل تتشابهُ أسبابُ هذه الحملة ودوافعها فعلًا مع قصةِ نبي الله مُحمد عليه السلام وأصحابه بعد أن هُجّرُوا من مكةَ إلى المدينة كُرها وظُلما؟ أيشتدُ التعاضدُ والتراحمُ بين الناسِ هُنا في غزة بعد أن نبذهم العالمُ كله لما يقارب 11 عامًا وألقى بهم نحو الهاوية؟
دولٌ عربيةٌ وغير عربية وشعوب ومسلمة وغير مسلمة جُلهم شاركوا في حصارِ هذه البقعةِ الجُغرافية الصغيرة والتي لم تتجاوز مساحتها 365 كم، إلا القليل القليل ممن رحم ربي، لا منفذَ للحياةِ هنا أمام المعابر المغلقة فلا مريض يخرجُ لتلقي العلاج، ولا زوجة تلتقي بعائلتها، ولا طالب يستطيع إكمال دراسته، ولو مكّنَهُ السعي بدموع العينين فلا أمل له بالعمل حتى، فالبطالة تنهشُ حاضرهم وتبيدُ مستقبلهم، حتى الموظفين لا يتقاضون رواتبهم، كل أوجه الحياة تعجز عن الحياة هنا.
ها هِي غزة التي أنهكتها ثلاثة حروب على مدار ست سنوات متواصلة تنهضُ من جديد بأخلاقِ أهلها النبيلة، بمبادرة صغيرة لا يوازي حجمها خرم إبرة في هذا العالم الكبير، «سامح تؤجر» حملة بادر إليها أحد التجار في مدينة دير النصيرات وسط قطاع غزة نظرًا للظروف المريرة التي يمر بها الناس وعدم مقدرتهم على سداد الديون المستحقة عليهم، لتشرق هذه الحملة كنورِ الشمسِ الساطعةِ في قلوبِ الناس ويساهم فيها العشرات العشرات من التجار وأصحاب رؤوس الأموال، ميسورو الحال وحتى معسورو الحال يُسقطون حقهم رغم حاجتهم له، تيسيرًا وتخفيفًا عن الناس.
دائمًا تُدهشنا غزة حين ترسمُ معادلاتٍ جديدةٍ يحقُ للتاريخِ أن يتباهى بفجرٍ يُولد فيها، لها دائمًا بصمةٌ مختلفة في شتى الميادين، لطالما كنتُ أتساءلُ إنْ كان لاسم هذه المدينة علاقة بجبروت أهلها، لعل تجربةَ الحياةِ في هذه المدينة تؤكدُ لي يومًا بعد يوم أنَّ غزةَ لن تقبل الانكسار ولن ينالَ منها أحدٌ مهما فعل، فتاريخُها الحافلُ بالغُزاةِ شاهدٌ ودليلٌ على اسمها.
يُضمد الغزيون جراحَهم النازفة بأيديهم، هنا أبٌ يُرجعُ نصفَ المَهْرِ لزوج ابنته المستقبلي ويتكفلُ هو بكسوتها وتجهيزها على نفقته الخاصة، وطبيبٌ يُخصصُ يومًا أسبوعيًا لعلاج الناس بالمجان، أما بائع غاز الطهي فقد مزّق دفتر الدين بأكمله، وما زالت الحملة مستمرة ابتغاء مرضاة الله وتخفيفًا عن الناس الذين لا يجدون طعام أطفالهم، لم تقف تلك المساهمات الخيرية لمن هم فوق الأرض فحسب بل طالت من هم تحت الأرض من المدينين في قبورهم، نعم لقد أسقط رجل حقه بمبلغ كبير جدًا من المال كان له على أحد المتوفين، لله دركم يا أهل غزة ما أروعكم!
أهِيَ مِحَنٌ ربانيةٌ تكشفُ المعدنَ الأصيل للشعب الفلسطيني؟ كيف استطاع الفقرُ والتضييقُ استخراج هذه الأخلاق النبيلة بكل هذا الجمال يا غزة هاشم؟ أيأتِ الفرج منكِ أنت بعد مسلسل الخيبات المتوالية هذا؟ هل نحن السر في كل المعادلات الناجحة إذن يا قوم؟
وبعد أن تبنى الشباب الغزي هذه المبادرة واحتضنونها بتشجيع الناس وحثهم على العطاء والتكافل عبر فضاء السوشيال ميديا وتصدر الوسم «سامح تؤجر» الترند الأول في فلسطين أتساءل إن كنا سنرى حملات ممثالة من شعوب أخرى بحق بعضهم البعض، هل سنرى مشاعر إنسانية مماثلة تخلق في القلوب الرحيمة روح الإخاء؟
أينما كنت يا صديقي في بلاد الله الواسعة هذه، سامح لتؤجر.. سامح واعف ما استطعت فإن الله يحب المحسنين وما جزاء الإحسان إلا الإحسان، سامح من ظلمك سواء كان ذلك بقصد أو بغير قصد، ليحفظ الله قلبك من الحقد والبغضاء، سامح بقلبك بعقلك بمالك بكل ما استطعت إليه سبيلا؛ لأن سلام الروح راحة لا تضاهيها راحة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست