قد خلق الله – عز وجل – هذا الكون وأبدع سبحانه بدءًا من أصغر ذرة وصولًا إلى أعلى درجات الشموخ والقوة، وقد بث سبحانه مظاهر شتى تشي بذلك السحر الخفي، وتلك القدرة الخارقة في لم شمل هذا الكون داخل حلقة واحدة، فجعله تعالى مترابطًا وفقًا لمنهج محدد وقوانين ثابتة تثلج صدر كل متأمل في هذا الكون الفسيح. فيتساءل الواحد فينا: أين هو حظ المصادفة من كل هذا؟

الجدال حول وجود الخالق وماهية الكون وغيرها من الأسئلة الوجودية انبثقت مع هذا الإنسان الذي خلق جدولًا، فقد وجد نفسه قابعًا داخل هذه الأرض التي شاءت الأقدار أن كانت لها الأفضلية دون جل الكواكب لكي تحظى بخاصية الحياة. فوجد هذا الإنسان بالتالي نفسه التي تشكلت وانفردت عن باقي الوجود، وجد نفسه يفكر ويستخدم منحة العقل التي ميزته عن سائر المخلوقات، والتي أعطته الأفضلية عليها، فجعلها بذلك في خدمته منذ أن خطا أول خطوة فوق هذه الأرض وإلى يومنا هذا. فيعلم بذلك أن كل ما رتب ودبر لأجله هو ومن أجل غاية محددة، لا يمكن لعاقل أن ينكرها ما دام يستخدم عقله بالطريقة الصحيحة. وإنه لمن البديهي أن يلفت انتباه الإنسان إلى ماهية وجوده، كيف تكون؟ كيف أتى إلى هذه الدنيا؟ هل هنالك قوة عليا تدبر كل شيء، هل ممكن أن يكون كل هذا ما هو إلا خلق المادة العمياء، وهل فعلًا هنالك حياة واحدة نحياها، ثم نصير إلى اللاشيء؟

كل هذه الأسئلة وغيرها شغلت الإنسان على مر العصور، فتجده قد ألف ما شاء الله له أن يؤلف في شتى المجالات، هدفه وغايته العظمى فك لغز الكون الذي حير العقول. إلا أننا نجد أن جل المفكرين والمتسائلين يقفون عند نقطة التأمل والتدبر في الكون وخلق الأنفس، هذه العملية التي جعلها الله عبادة وقد حث القرآن عليها ودعا إليها بإلحاح شديد لما فيها من عظمة.

كل متأمل في بديع صنعه تعالى يقف عاجزًا أمام هذا الإبداع الذي لو اجتمع الإنس والجن لم يأتوا بمثله أبدًا. يقف الواحد منا سارحًا في السماوات والجبال، متأملًا في أسراب الطيور، وهي تحلق شمالًا تارة، وجنوبًا تارة أخرى، تندمج مع زرقة السماء الساطعة، فتشكل لوحة فنية من الطراز الرفيع. قد تسير بضع خطوات بتأملك لتدخل إلى عالم الحشرات، فتقف مندهشًا أمام دقة التنظيم التي تشمل حياة كل من النحل والنمل على وجه الخصوص، ذلك التنظيم الذي عجز أهل الأرض جميعًا على الإتيان بمثله، فتبحر في عالمهم قليلًا لتتأكد أنهم مثال حي لم يكن مصادفة أن بثه تعالى في عالمنا هذا بغية الرشاد واتباع ذلك الأسلوب الذي يتخذه هؤلاء المخلوقات التي تسير بوحيه تعالى فتدهشك بمدى الدقة التي تتميز بها. فها هي ذي النمل، مخلوقات صغيرة في عالم كبير، مثال شاهد على الجد والكدح لكسب القوت بعرق الجبين كيفما كانت الظروف، إنها مثال للصبر، كما أنها تعزز قيمة التعاون على مشاق الحياة، وتؤكد أن الجماعة والعيش في جماعة هي من سنن الله على الأرض، سبحانه الذي يتعالى عن العبثية. والنحلة، تلك الحشرة التي يخرج من بطنها عسل فيه شفاء للناس، بوحي منه تعالى تعمل فتخرج لنا من بطنها عسلًا نتغذى منه ونستفيد منه في حياتنا، تلك النحلة التي إن لسعتك شافتك، وكما هو معلوم اليوم، فقد أصبح استعمال لسعات النحل في العلاج من بين أكثر الطرق نجاعة.

قد يتأمل الواحد فينا سبحان الله كيف يضع هذا السر في أصغر إن لم نقل أضعف خلقه، ليري الإنسان مدى عظمة هذا الخالق الذي نفخ فيه من روحه وقال له كن فكان، وجعله بذلك خليفة في الأرض وبث له من الأسباب لإقامة عدل الله على الأرض، وجعل سبحانه في خلقه آية يقتدي بها هذا الإنسان فيتعلم منها ويهتدي إلى سبيل العيش القويم خاضعًا متذللًا للخالق الجبار الذي بث عظمته في ربوع الكون.

قد يسري الإنسان قليلًا إلى عالم النبات، ذلك العالم المدهش الذي وقف العلماء حائرون متسائلون كيف تتشكل هذه الأنواع المختلفة من النبات وتخرج من الأرض الواحدة، فقد بث سبحانه في بذور النبات كما في بيض الحيوان عناصر التخطيط للخلية، فتسري تبعًا لما هو مخطط له لتخرج الأرض من بطنها ما لذ وطاب مختلفًا ألوانه وأشكاله، يسقى من ماء واحد، من بديع قدرته عز وجل.

وهذه الأنعام التي جعل الله فيها للناس عونًا على مشاق للحياة، ومصدرًا للرزق، ووسيلة للتنقل، وحمل الأثقال، ومصدرًا لكسوة الإنسان، وأثاثه، وقوته، وحرثه، وعزز سبحانه عنايته؛ إذ جمع فيها اللين والانقياد والتغذي من أهون الأعشاب.

وهذا الإنسان الذي نفخ فيه سبحانه من روحه وقال له كن فكان، قد جعله تعالى آية تدل عليه، ودعاه إلى التأمل في نفسه كيف خلق. فها هو ذا جهاز اللسان الذي بثه سبحانه في فم الإنسان وجعله الوحيد من دون أعضاء الحس الأخرى أداة للتذوق ووسيلة لا غنى عنها للكلام، ذلك اللسان الذي إن حفظته سلمك، وإن كلمته كلمك، وإن طلبت علمًا علمك. وجعل سبحانه حفاظًا للفم وما يحويه الشفتين، فقد جعلهما سبحانه زينة لوجه الإنسان، وحفظًا لما يحتويه فمه من لعاب، ولسان، وواق من الغبار والحشرات المضرة.

ويواصل الواحد فينا رحلته فيتأمل سبحان من خلق فأبدع، تلك العين التي ترى بها كل ما يحيطك، فهي من أعظم النعم إذ خولت لك الفرصة لترى نعم الله عليك، هاتان العينين من بين أعظم خلق الله عز وجل؛ إذ لو تأملت تلك الدقة في الخلق لوقفت مندهشًا أمام نفسك. والسمع الذي ذكره الله عز وجل وجل كثيرًا في كتابه، ذلك الكهف البديع في خلقه، المتزن في غاياته بمسالكه وأعصابه وعظامه، فقد جعله الله آية من آياته تشي بعظمة الخالق الباري. كل آية تدل على الله فتمحي العبثية في الخلق، هذه الآيات التي لو حاول الإنسان شرحها شرحًا مفصلًا لاحتاج إلى مجلدات عظيمة في الطب والتشريح، أما مقال كالذي أخطه فغايته الإشارة فقط.

وإذ تفيض نفس الفرد منا لوعة فيتذكر كمية الأحاسيس والمشاعر التي بثها عز وجل في هذا الكون وجعلها آية تدل على الله، فلا يفهم كنهها أحد، ولا يفسر غموضها أحد، ومن بين جملة هذه المشاعر نجد الحب، الذي إن عشت حلاوته أنساك الدنيا وما فيها، وإن ذقت لوعته كوتك وأوهنتك، هذا الحب الذي جمعنا، فنحب الصديق والرفيق، الابن والأب، الأم والأخت، نحب الإنسانية جمعاء التي تشاركنا هذه المشاعر. هذا الحب الذي يبدأ فينا شهوة ثم ينتهي إلى عبادة، ينسج فيها الزوجان أوكارًا لصغار أعز علينا من أعيننا، فتخيم فيها الرحمة والسكينة، فهي من أقدس وأجمل الصور التي خلقها الله في الكون وبثها في للعباد.

إن خلق الله ينفي كل ما يقف أمامه من ذكر للعبثية في الخلق، فالله أبدع كل شيء بإتقان شديد لا يمكن لعاقل أن ينكره. فحظ المصادفة في خلق هذا الكون الجليل لا يساوي شيئًا، كيف لعاقل أن يرى في كل هذا الإتقان خلق للمصادفة العمياء. كل ما في الكون يسري وفقًا لقانون محدد، ناتج عن تدبير عظيم وتخطيط حكيم لا يمكن لأي متأمل أن ينفيه، ولو بنسبة 0%!

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد