(النقد) ما أشهى هذه الكلمة عندنا، لا سيَّما إذا كنَّا نحن مَن نُمارسها، وما أمَرَّها في المذاق إذا مُورِسَت علينا! ولأن لا أحد يعيش بيننا -يتنفس أوكسجيننا، ويمشي على أرضنا، ويدخل بيت الخلاء للاستفراغ مثلنا- فوق النقد! كان لا بدَّ أنْ نقول: (كلُّنا خطاؤون، لكن ليس كلنا يصلحُ لنقد الخطَّائين)!
بعد هذا التحصيل الحاصل، بات مِن الضرورة بمكان أنْ نعترفَ أنَّ (النقد) اليوم اشتبه على الناس كما اشتبهت البقرة على بني إسرائيل بالأمس، فصاروا لا يَفْرُقون بين النقد والانتقاد، ولا بين نقد الفكرة والمفكِّر، ولا بين الاختلاف في الفكرة ذاتها وبين الخلاف الشخصي! وإنه لاشتباه خطير، ينبغي أنْ نحرص حرصًا شديدًا ألَّا نكون مِن ضحاياه!
إنَّ القول بعدم صلاحية نقد كل مخطئ، ليست مِن زاوية أنَّ هناك أشخاص معصومي الأفكار، أو كاملي الآراء، أو أنَّ هناك آدميين ملائكيين لا يجوز ردُّ آرائهم، ونقدها نقدًا سليمًا، وإنما مِن زاوية أنَّ أكثر الناقدين اليوم أشخاص لا يملكون آليات النقد العِلمي، وكيف يُمكن لإنسان يفقد آلة الوصول إلى الشيء أنْ يطمع في الوصول إليه؟!
بل إنَّ أضرار النقد مِن أضرابِ هؤلاء قد تكون أخطر مِن أضرار الخطأ ذاته، ذلك أنَّ الكثير مِن الناس اليوم لا يُفرِّقون بين النقد وبين كشف عورات الناس، ليس فقط عوراتهم الأخلاقية، أيضًا عوراتهم الفكرية، فحينما يُسخِّن شخص لا يحفظ من القرآن إلَّا ما يُقيم به صلاته طبول النقد على شيخ القرَّاء، أو شخص لا يميِّز بين الحديث الصحيح والضعيف فضلًا عن استيعاب أحدهما أو كلاهما في صدره لنقد محدِّث العصر.. فهذا لا شكَّ (ارْوِيبْضَاضٌ) متعمَّد، وليس بغلوٌّ لو سُنَّت لمرتكبيه قوانين تُجرِّمه وتعاقب عليه، وإلَّا استفحل الداء، وتشجَّع مرتكبوه على التناسل والتكاثر، ذلك أنَّ غياب الردع تشجيع على شيوع الجريمة!
وما يحزُّ في النفس، أننا عوض أنْ نجد في الناس مَن يستهجن المساس بذوي الفضل، والحفاظ على سمعة العلماء، ومكانة المفكرين، وسدِّ الخلل، ولمِّ الشمل، وتقديم حسن الظن عن سيِئه، واستحضار العذر مكان الملام، وأنَّ سقطات هؤلاء النخبويين إنما يَردُّ عليها الأَكْفَاءُ ممَّن هم في درجة علمهم، وأسوياءٌ بمستوياتهم، نجد خلاف ذلك تمامًا، وهذا لاشكَّ أسهم في شيوع النقد العشوائي، وشجَّع على تنصيب الجميع أنفسَهم أهلًا للنقد، وبات لا يخطئ أحدنا إلَّا وانصبَّت عليه سهام النقد صبًّا، مِن حيثُ يعلم ومِن حيث لا يعلم!
وربَّما رأيتَ طُوَيْلِبًا حديث عهدٍ بالعلم قد نصَّب نفسه ناقدًا لأستاذٍ لو جئتَ تحسبُ ساعات سهره في طلب العلم والبحث لوجدتها فاقت ساعات يقظته، وآخرٍ أجنبي عن علمٍ من العلوم تجرَّأ على مختصٍ أنفق من عمره أكثره في سبيل التصحيح والتضعيف، وكلُّ هذا راجع لأنَّنا لم نعرف لذوي الفضل فضلهم!
كان الإمام الشافعي في مجلس شيخه الإمام مالك ربَّما قلَّب صفحات كتابٍ بين يديه بهدوءٍ لا يكاد يُسمع فيه صوتٌ للصفحة، وجاءَ بعده تلميذه الإمام أحمد الذي ربَّما كتمَ عطشه في مجلس الإمام الشافعي تأدُّبًا معه أنْ يراه يشرب أمامه، وها نحن اليوم أمام جيل يرى شهوته في تتبُّع سقطات أستاذه مِن قبيل النقد المنهجيّ، ويُكابر بنفسه كونه التلميذ الذي نقدَ أستاذه!
إنَّ النقد وإنْ كان علمًا له قواعده وشرائطه، غير أنَّه لا يستقيم دون أدب، ولا يُقبَل دون بيِّنات من الأدلة، بل إنَّ الكثير مِن العلماء غضُّوا الطرف عن أخطاء غيرهم خيفة أنْ يَقدح ذلك في سيرتهم، فيُنتَقصَ مِن قدرهم في أعين العوام، فوجدوا أنَّ منفعة ترك النقد أولى مِن بيان الخطأ، وصاحبُ الفضل إذا شاع فضله بين الناس، وانتفع به القاصي والداني صار لا خير في كشفِ بعض أخطائه للعوام، فإنه ربَّما كشفَ عالِم خطأ غيره من العلماء فكان ذلك بابًا للتقليل مِن الأول، وإنَّما ينبغي مراجعة المخطئ في السرِّ إن لم يتعذَّر الوصول إليه، وإلَّا فلا يُشار إليه بالاسم الصريح!
وليس هناك تزيُّد إنْ قلنا أنَّ شهوة النقد غلَّابة، والميل إلى السبق في كشف الخطأ لا يخلو مِن متعة، لا سيَّما إنْ كان المخطئ معروف الشخصِ، منتشر الفكر، لكن يجدر بالناقد ها هنا أنْ يكون منصفًا في علاج الخطأ، وألَّا يحيد عن الموضوعية بحجَّة اختلاف المنهج بين الناقد والمنقود، وأنْ يقطع العروق التي تربط بينه وبين شهوة النقد، فإنه النقد متى تولَّد عن اشتهاء إلَّا جانب الصواب وإنْ تأكَّد خطأُ المنقود!
علينا الاقتناع بأنَّ النقد علم وليس مجرد إبداء آراء، أو إلقاء الكلام على عواهنه، والقول بعِلمية النقد يقودنا إلى إعمال التريُّث في نقد الخطأ أكثر مِن العجلة في اكتشافه، والتسرُّع في إظهاره، فإنَّ صوابية النقد لا تُجيز بالضرورة أحقية نشره، لا سيَّما إنْ كان الخلل بإظهاره أفدح مِن السكوت عنه! وبخاصَّة في وقتنا هذا.
ويحسن بنا أكثر مِن أيِّ وقتٍ مضى ألَّا نتنكَّر للتريُّث في إبداء الخطأ مِن أجل العجلة فيه، هذه العجلة المذمومة التي جعلت الناس يتكالبون على نقد بعضهم بعضًا، حتى باتَ الواحد يخشى أنْ يَكتشفَ الناس خطأه أكثر ممَّا يخشى إثم خطئه!
ومِن بين الأسباب التي روَّجت للنقد العشوائي، حتى صار هذا الأخير مادَّة للاشتهاء، كأني به كأس خمر لمدمن، أو علبة سجائر لمتعاطٍ، أو امرأة فاتنة لزِيرِيٍّ، أو صفقة رابحة لتاجر جشع… أنَّنا صرنا نُركِّز على أخطاء غيرنا أكثر مِن تركيزنا على أهدافنا، ولو أنَّ كلَّ واحدٍ منَّا عاشَ لبناء نفسه، وترميم ما هُدِّم فيه، لما أتيح له الوقت لهدم غيره، أو تعطيله عن ترميم نفسه! علمًا أنَّ هذا العلم بحر، ويمكن للإنسان أنْ يسبح في أيِّ عَرَضٍ شاء، دون حاجته لأنْ يُغرقَ سفن غيره، أو يكسر مجاديفهم لإثبات قاربه، وبخاصَّة أنَّ بحر العلم يسع جميع قواربنا الفكرية!
ضف إلى ذلك: الكثير منَّا يغفل عن خطورة النقد، ربما لا يختلف اثنان في أنَّ فلانًا مخطئ في رأيه، لكن إجماعنا على خطئه لا يقتضي منه أهلية الجميع لنقده، فرُبَّ ناقدٍ لمخطئ أتى بأخطاء أخرجته مِن الملة فضلًا عن مجانبته للصواب، والمرء في إبداء فكرته آمن مِن السَّقَط منهُ حينما ينقد غيره في فكرته، ناهيك عن أنَّ إنصاف المخالف عزيز، وتبيين جرائر الغير قلَّما يسلم مِن الحيف.
هاهو الواقع أمامنا، فكم مِن زانٍ أُغتيبَ بكلامٍ أفحش مِن ارتكاب الزنى، وكم مِن امرأة انتحرت في حالة مسٍّ شيطاني والناس مِن حولها بين مَن أدخلها النار، وبين مَن جزم بدخولها، وبين مَن خاض في أسباب فعلها لذلك بما لا علاقة له بذلك مِن قريب ولا بعيد!
صار يندر إلى درجة العَدم أنْ تجد شخصًا يقول عن مخطئ ما: (لعلَّ له عذرًا أجهله)، أو (لعلَّه كان يقصد كذا، وأنا مَن أخطأتُ فهمه..)، أو (ذلك شأن يخصُّه، ولا فائدة مِن حديثي عنه)، أو (تلك فتنة سلمتْ منها يدي، فلا أقلَّ مِن أنْ يسلم منها لساني..).. لكن ما أكثر الذين لديهم الجاهزية التامة للانفكاك على غيرهم نقدًا، وكشف عَوَارِهم، حتى كأنَّ ألسنتهم الحِداد لم تُخلَق إلَّا لذلك!
يؤسفنا أنْ يتقدَّم غيرنا تكنولوجيا، وثقافيا، وفنيًّا، وعلميًّا… بينما نحن ما نزال نصارع بعضنا بعضًا في وحل القضايا التافهة، ومنَّا مَن يجتهد الليل والنهار في سبيل تبيان سقطات العَالم الفلاني، وكبوات الشيخ العلَّاني، ونسوا أنهم بهكذا تفكير هم يسيؤون لأنفسهم، ويَحرقون أجور حسناتهم، إذْ كم منتقدٍ لخطأ أتى بنقدٍ أبان عن أخطاءٍ فيه ما كانت لتَبِينَ لولا نقده!
كما ينبغي أنْ نُدرك أنَّ شيوع الخطأ عن شخص ما ليس يعني حدوثه حقيقةً، فما أكثر الذين شاع عنهم ما لم يصدر منهم، بل حتى لو بلغنا صحَّة الحادثة ينبغي أنْ ندرك أنَّ صحَّة حدوث الخطأ، لا تقتضي أهلية شخص ما لنقده، وإنْ سلَّمنا جدلًا توفّر الأهلية فقد لا يتوفر الزمكان السانح للنقد؛ إذْ ليس مِن الصواب أنْ يُخطئ أحدهم سرًّا فيُنتقَد علنًا، وليس مِن العدل أنْ يُخطئ شخص فيُعاب هو وأسرته ووطنه، ولا أنْ يُخطئ عالِم جليل فينقُده مَن هو أقلُّ منه علمًا، فضلًا عن فروقات المستوى، واختلاف التخصص، كما هو شائع اليوم مِن نقد (صحيح البخاري) الذي تكالب بعض الإعلاميين والبياطرة والصِّحفيين على نقده، وهم أعجز عن حفظ حديث واحدٍ بالسَّند، فضلًا عن إتقان آليات نقد محدِّث، ونقد ماذا؟ نقد كتاب توطأت الأمة على صحَّته!
الأمر الذي يجعلنا نتفقَّد سلوكاتنا مع الآخرين، وألَّا نمارس عليهم الهجوم غَيلة فور إذاعة سقطة عنهم، وأنْ نحرص على ترميم أخطائنا الشخصية، فإنها كفيلة أنْ نعيشَ لها، بل إنَّ الواحد منَّا لو عاش عمر نوح عليه السلام ما كفاه أنْ يُصلح معشار عيوبه، فكيف يُجوِّز لنفسه أنْ يعيش في حياة غيره، ويُبرز عيوبهم للعَلن، تحت غطاء النقد!
والملاحظ للشريعة الإسلامية يجد أن العقوبة مناسبة جدًّا للجريمة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى..} [البقرة: 178، 179]. فخصَّص الجلد للمرأة الحرة غير المحصَّنة مائة جلدة، وللرجل الحر غير المحصن مائة جلدة مع تغريبٍ لعام كامل، والرجم حتى الموت للحر والحرة المحصنين، والجلد ثمانين جلدة لمن قذف عرضًا بريئًا، وقطع اليد اليمنى من الرسغ للسارق، وجلد المخمور أربعين جلدة وقيل: ثمانين قياسًا على القاذف.
ومِن باب الاقتداء بالصفات الحسنى وجب علينا أنْ نسقط هذا على نقودنا لمن رأينا منهم خطئًا، فلا ينبغي لمن سرق فكرة أنْ يُجلَد حتى الموت، ولا لمن قذفَ كتابًا أنْ يُجلد جلد مَن قذفَ مكتبةً بكاملها، ولا مَن سرقَ كتابًا مِن ألفه إلى يائه أنْ يُجلَد بجلدة مَن سرقَ مقالًا منهُ.. وهكذا دواليكَ، وتطبيق مثل هذا العقاب العادل على الفكرة الخاطئة مِن قِبَلِ الناقد لا يستطيعها الناس على بكرة أبيهم، وإنما أفراد أفراد!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست