كثيرون لا يحبون الاستسلام للهزيمة وينتظرون قائدًا محنكًا خبيرًا لديه خطة واستراتيجية النصر، ها هو “كارل ماك” جنرال عسكري نمساوي لا يريد أن يستسلم للهزيمة المنكرة التي أوقعها نابليون لبلاده في عام 1800، فطموح نابليون لن يتوقف عند هذا الحد بعد أن نصب نفسه إمبراطورًا وبسط نفوذه على عدة مناطق أوروبية، تاريخ الجنرال ماك العسكري مشهود له بالخبرة العسكرية إضافة إلى وقوعه في الأسر 3 سنوات في فرنسا واهتم كثيرًا بدراسة نابليون واستراتيجياته وتكتيكاته.
وجد ماك أن الانتظار غير مجدٍ ويجب التخطيط المحكم لتحالف موسع وكبير من أجل توجيه ضربة استباقية قوية يُحكم الحصار فيها من كل النواحي على نابليون وجيشه، ويمنع عنه أي مدد خارجي وينجح في خنقه وتوجيه ضربة قاصمة له ولجيشه.
في عام 1805 تم الاتفاق على التحالف الكبير الذي ضم النمسا وإنجلترا وروسيا لشن الحرب على فرنسا وإرغامها على العودة إلى ما قبل طموح نابليون.
كانت الخطة كبيرة ورائعة بحق، فقد استغرقت وقتًا طويلًا لإعدادها بقيادة الجنرال ماك، كانت الخطة بكل تجهيزاتها ومددها تصل إلى جيوش قوامها نصف مليون جندي وهو رقم ضخم وكبير في هذا التوقيت مقارنة بجيش نابليون الذي كانت تقديراته في هذا التوقيت تقارب الـ 70 ألف مقاتل.
ها هي الخطة تعطي لجيش نمساوي قوامه 95 ألفًا لتأمين منطقة بين إيطاليا والنمسا، وماك يقود جيشًا آخر قوامه 70 ألفًا غرب الدانوب إلى بفاريا، ثم يعسكر بانتظار 75 ألفًا قادمين من روسيا وفي الأثناء بعد وصول جيش روسيا وانضمامه لماك تهاجم إنجلترا فرنسا بجيش كبير آخر من البحر، لقد كان ماك يشعر بالفخر والاعتزاز بهذه الخطة وإدارتها بهدوء وروية، فها هو يقترب من تلقين نابليون درسًا قاسيًا.
ماك جنرال عسكري يكره الفوضى واللا يقين، ويحب التخطيط الواضح المحكم، حتى أنه أطلق على هذه الحرب “حرب دقيقة كالساعة”، فجأة اكتشفت كشافة الجنرال ماك أن الغابة السوداء التي تقع بين جيش ماك والحدود الفرنسية بها جيش فرنسي يتقدم، وهو أمر مفاجئ وغريب فهي منطقة صعبة وبها ممر ضيق ولا يمكن أن يفكر نابليون أو أي قائد محنك في المرور منها، لقد كان أمام نابليون خيارات أخرى أفضل وأيسر لجيشه، شكّ ماك أنها مناورة من نابليون لكن كان عليه أن يحتاط وأرسل جزءًا من جيشه إلى الغابة.
في وقت آخر وصلت أخبار أنّ ثمة جيش فرنسي في مكان آخر شمال موقع ماك، وتضاربت التقارير عدة مرات عن مكان هذا الجيش، ارتبكت معلومات الجنرال ماك عن تقدم الفرنسيين وعن مكانهم بدقة، ثم تم اكتشاف جيش فرنسي آخر يقطع الطريق تمامًا بين ماك وبين النمسا ويقطع طريق الروس أيضًا قبل أن يصلوا إلى ماك.
لقد وقع ماك في حيرة واندهاش عجيبين فكيف لجيش قوامه 70 ألف جندي أن يظهر في كل تلك الأماكن مرة واحدة، وبدأ القلق وعدم اليقين يسيطران على ماك، حتى اكتشف ثغرة كنقطة ضعف بها قوة صغيرة من الفرنسيين وقرر أن يشق طريقه ليكسر الحصار من خلال تلك النقطة وبعد يومين من تحرك ماك أخبره الكشافة أن قوة فرنسية ضخمة ظهرت بين ليلة وضحاها قاطعة هذا الطريق أيضًا، في هذه الأثناء قرر الروس التوقف وعدم إرسال جنودهم لماك.
لقد كانت هناك خلافات كبيرة وجوهرية ومتغيرات كثيرة لم يدركها ماك، حيث أحدث نابليون تغييرات كثيرة وجوهرية وفعّالة في جيشه حتى عام 1805 بنمط جديد ومغاير عما اعتاده الآخرون تمامًا، لقد أعاد نابليون تنظيم جيشه ولم يستمر على نفس النمط المعتاد، فنجح أن يجعل قوام جيشه أكثر من 200 ألف مقاتل، وغيّر نمط الجيش الذي قسّمه إلى وحدات، كل وحدة تبلغ ما بين الـ 15 و30 ألف مقاتل، وجعل كل وحدة مستقلة بخيّالتها ومدفعيتها وقيادتها أيضًا، كما غيّر نمط القيادة واعتمد على اختيار قادة من ضباط شباب أثبتوا تميزهم في حملات سابقة،
تميزت هذه الوحدات والتشكيلات بالتحرك السريع وباعتماد نابليون على اللا مركزية في إدارة الوحدات، فهو يقوم بتكليفهم بمجموعة من المهام والباقي عليهم، نجح نابليون أن يمنع إهدار الوقت في تمرير الأوامر، وكان بمقدور نابليون أن ينتشر ويركز وحداته في أطر غير محدودة وتبدو للخصم أنها فوضوية وغير مفهومة وكان يحسن تحريكها وتوجيهها بسرعة ومهارة.
إن خوض المعارك والصراعات لا يعتمد أساسًا على وضع الخطط المسبقة ومعها استراتيجية مصباح علاء الدين السحرية التي إن استخدمتها ضمنت النصر، بل يعتمد كذلك على فارق القيادة ونمط عملها وتحركها وإدارتها للصراع.
فالخطط يمكن تغييرها وموازين القوى كذلك يمكن تغييرها وطبيعة المعارك والصراعات تتغير باستمرار، الركيزة الأولى هنا هي نمط القيادة، فقيادة غير نمطية يمكنها أن تكسب ميزات جديدة تؤثر في ميزان القوى وفي طريقة إدارة الصراع – رغم ضعفها أو قلة عددها – من أجل خلخلة الخصم ومفاجأته وتحقيق نصر حقيقي عليه.
لا أشك أن ماك كان خبيرًا ودارسًا ومخلصًا لقضيته ووطنه، لكن نمطه لم يكن مناسبًا أمام نمط نابليون، لقد فاجأ نابليون ماك رغم قلة عدد جيشه وقلة أحلافه، وأيضًا مهد نابليون طويلًا لهذا الفارق الذي لم يكتشفه ماك، واستطاع نابليون أن يحسن تحريك وتوجيه هذه الوحدات عمليًا، أما ماك فيؤسفني أن أخبرك بالمفاجأة أنه استسلم أمام الجيش الفرنسي ووقع في أسر نابليون مع 60 ألف جندي من جنوده.
إن الخطط والاستراتيجيات ليست أمرًا سحريًا يمكن لمن يتحصل على واحدة منها أن يضمن لنفسه أن معه المصباح السحري، لو كان ماك بيننا الآن لظننا أن معنا المصباح السحري وأننا سنلقي بنابليون في البحر وأن نصر الله على نابليون هو أمر محتم محقق، فهل علينا أن ننتظر دومًا عواقب الأمور ونهايات ماك حتى ندرك أننا نحتاج للتفكير المبكر في نمط يمكنه التعامل مع النصر كما يمكنه التعامل مع الهزائم.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست