في عصور الاضطهاد والاضمحلال للأمم، دائمًا ما تبرز فكرة المستقبل المشرق الذي سيأتي عاجلًا أو آجلًا، ودائمًا ما يكون هذا المستقبل مرتبطًا بشخص سيأتي لينتشل الناس مما هم فيه، شخص مُخَلِّص.

وما يغذي هذا في النفوس، النصوص الدينية التي تحكي عن المُخَلِّص المنتظر الذي سيأتي ليهزم الشر ويقود الجموع، فينتظر معشر المؤمنين هذا المخلص راضيين بما هم فيه، لأنهم اقتنعوا أن الغمة لن تُزال إلا بهذا العبقري المُلْهِم.

فلنعد إلى واقعنا قليلًا، واقعنا بالغ السوء.

ما بين سلطة مجنونة بالبطش متعطشة للدماء وآخرين مهووسين بقطع الأيدي والرقاب، وآخرين سيُصِيرهُم بطش النظام عاشقين لقطع الرقاب أيضًا، ضعنا نحن وضاع ما تبقى من إنسانية لدى هذا البلد المنكوب.

دعونا نتحدث ببعض المنطق.

إذا جئت أنا وقتلت أحد أبنائك ثم اختطفت الآخر، فذهبت أنت للقاضي لينصفك من بطشي، فأمر القاضي بإعدام ابنك الذي خطفته من قبل عقابًا لك على جريمتك وهي أنك ذهبت للمطالبة بحقك وحق أبنائك في العدل، ماذا ستفعل؟ أو ماذا ستريد أن تفعل؟

بالطبع ستريد أن تقتلنا انتقامًا، بل ستريد قتلنا بكل سادية ودموية.

ثم ماذا؟ في الغالب لن تستطيع أن تحقق ما تريد، ولكن شعور الكره عندك سيزداد ولن يخبو، أنت شخص متدين إلى حدٍ ما لا تعرف الكثير عن دينك، وفي نفس اللحظة أنت مقهور لا تدري لمن تشكو.

ثم جاءك شخص قال لك إني أعطيك فرصة عمرك لتسترد حق أبنائك، وستجاهد في سبيل الله أمام الكفار الذين قتلوهم وظلموك، بالتأكيد هم كفار فليس هناك مسلم يقوم بهذا. ستقتنع في لحظات فالقصة مكتملة الأركان، قاتل ظالم بطش بك وبأبنائك وشخص يبدو عليه الطيبة قال لك إنك ستسترد حقهم وستكون أقرب إلى الله، وأنت لا تعلم حقًّا هل ستكون أقرب إلى الله أم لا ولكنك في حالك هذا ستصدقه، “مبروك” أنت الآن في أحضان أحد التنظيمات المتطرفة، “مبروك” للنظام وللمجتمع ولهم.
هذا ما يفعله النظام بشكل أظنه أحيانًا متعمدًا ولا أفهم السبب.
ولكن السؤال الأخلاقي هنا، هل من العدل حقًّا أن نصف من يقتص لحقه المسلوب -بعد أن ظلمه كل من كان من المفترض أن يجلب له حقه- بالإرهاب؟

في حالتنا السابقة الذكر، هل هذا الأب المكلوم إرهابي إن قتل قاتلي أبنائه؟

لا أقول أبدًا أن هذا حل أو أني أوافق عليه، ولكن أليس تصرفًا منطقيًّا حقًّا؟

ما يفعله النظام أنه أفقد الناس الأمل في كل شيء، في الجيش والشرطة والقضاء والإعلام، لم يعد أحدٌ يصدق أنه سيستعيد حقه بالقانون، وهذه أم الكوارث.

نحن في الطريق للغابة، سيظل النظام “غشيمًا” يظلم ويبطش دون حساب وسيتحول عدد أكبر من الناس خاصة الشباب إلى منهج العنف تحت العديد من المسميات، سواء كان المسمى إسلاميًّا جهاديًّا أو ثوريًّا، لا فرق.

سنظل محصورين بين مهووسين، مهووسون بدأوا ومهووسون مُحدثون صَيَرَهُم الظلم قتلة.

ما الحل؟ هل نبقى قابعين في الظلم؟

 

أم ننجرف للغابة ونسفك الدماء ونفقد ما تبقى لنا من إنسانيتنا؟ هل الحل حقًّا في فوضى عارمة وحرب حقيقية قد نخسر معها أعوامًا وآلافًا أو ملايين من البشر، ولكن في مقابل حرية وعيش كريم بعد عشرين عامًا؟ أم نصبر حتى يأتي المهدي المُخَلِص المنتظر؟

حسنًا، حل العنف الشامل ليس حلًّا في رأيي، فعيوبه أكبر من ميزاته وتدارك آثار كوارثه حتى إن نجح بعد عمرٍ طويل شيء صعب للغاية.

أن تتحول لسفاح كقاتلك ليس حلًّا، بل هو انتحار لما تبقى من نقاء بداخلك.
ببساطة ستبني على أنقاض نظامه اللاإنساني نظامًا لن تستطيع أن تجعله إنسانيًّا، فإنسانيتك قد خسرتها بالفعل.

ولكن أن تُمثل جانب الخير المطلق الساذج الذي لا يقوم بشيء سوى الانهزام ليس فعالًا أيضًا فهذا النموذج خُلق لينهزم.

وانتظار المُخَلِّص غير مُجدي أيضًا، فالمُخَلِّص في رأيي تفرزه المعارك الكبرى ولا يهبط من السماء.
الحل طويل المدى للأسف ومرهق ومُستهلك للجهد والأعصاب والأسوأ أنه يستهلك الإنسانية أيضًا.

الحل في مقاومة طويلة، سلمية “إلى حدٍّ كبير”، حدّ لا يسمح بالانجراف لعنف طويل المدى أبدًا ولا يفتح لهذا المجال بابًا حتى.

الحل في الثقافة والوعي والمعرفة، في القيادة الحكيمة الواعية، في التخطيط، في بعض الجنون أحيانًا، في رفض الظلم، في الإنسانية المفقودة بيننا، في التكاتف، في نكران الذات، في عدم الإهمال، في النظام، في النفس الطويل، في الصبر، في الجمال، في تربية الأجيال، في فضح الأكاذيب، في إرشاد المجتمع الذي سيجن جنونه قريبًا، في الحرية والإيمان بها، في تدفق الأفكار ونبذ الأحادية الفكرية، في اندفاع الشباب، في الحب، فينا إذا اهتدينا للطريق، في جموعٍ هادرة، في قادة ستفرزهم المعارك القادمة، في عدم انتظار المهدي الذي لن يأتي من السماء.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد