الإثارة السياسية التي تخلفها أخبار صعود وهبوط زعماء ماليزيا، في خضم الصراعات والسجالات، والمعارك الانتخابية، وفضائح الفساد المدوية، والاتهامات المتبادلة بين من هم في سدة الحكم، ومن هم في موقع المعارضة، والتي يختلط فيها ما هو ملفق بما هو حقيقي، لا تقف عند حد، ولا تفتقر إلى عناصر التشويق الهادف، والعبرة من تجارب الشعوب والأمم، وبالأخص أمم جنوب شرق آسيا، اليابان والصين وكوريا الجنوبية وسنغافور وماليزيا، بينما تشخص أبصار العرب بإعجاب واحترام كبير إلى ماليزيا كنموذج الدولة التنموية الناجحة التي تمثل القدوة والأمل في تحقيق إنجازات تنموية جديرة بالاحترام، في ظل أوضاع عربية بالغة في البؤس واليأس ومثيرة للإحباط، تسم مجمل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية بشتى أقطار العالم العربي، وبدافع من كون ماليزيا دولة ذات أغلبية مسلمة، وحكامها ذوي أسماء عربية، ونتشارك معهم بالثقافة الإسلامية، تمارس الديمقراطية واقعًا معاشًا منذ التأسيس، وبذات الوقت تنتعش فيها ثقافة الاستبداد، والفساد، وتكميم صوت المعارضة وتخوينها، والحد من حرية التعبير، والسيطرة على الصحافة، وعدم المساواة والتمييز ضد الأقليات العرقية، وحكم الحزب الواحد القائد للأمة، والقائد الفرد الشعبوي، الأب القائد الملهم الضرورة… إلخ، ولا أحد يبالي كم أن الظروف الموضوعية الأساس للتنمية الماليزية لا تتشابه مع السياق العام في أي من البلدان العربية، فماليزيا البلد الجنوب شرق آسيوي الاستوائي المناخ، بمزاياه السياحية، وبما تحظى به من الثروات الطبيعية، وبالموقع الاستراتيجي الهام، بعيدة كل البعد عن الشرق الأوسط بمآسيه ومشاكله المستعصية، فلا هي جارة لإسرائيل، ولا تشكل أدنى خطرًا عليها، مهما بلغت حدة التصريحات لبعض قادة ماليزيا في ما مضى، ولم تعان مما عانته أمة كانت واحدة فتقسمت، بالعكس من ذلك فهي أمة كانت مقسمة فتوحدت، لم تشهد الانقلابات العسكرية، ولم تسق من قبل قادة وزعماء مغامرين إلى حروب وصراعات إقليمية طاحنة وعدمية وغير عقلانية.
كم مثير حين يرى المراقب من الشرق الأوسط على شاشات الأخبار العالمية الدكتور مهاتير الجد القائد الذي عاد للحكم مؤخرًا بعمر 93 عامًا، بعد ابتعاد عن الحكم، دام 15 عامًا، وهو يطل على مواطنيه يقرعهم كما لو كان جنرال عربي نمطي، واصفًا أبناء شعبه بالكسالى الذين ما انفكوا يتوقعون الحصول على معونات مالية تعودوا عليها من الحكومة، في حين يتم جلب عمال أجانب للقيام بالوظائف التي لا يريدون القيام بها، محذرًا أبناء شعبه من أن جيرانهم الفيتناميين، ذلك البلد الذي دمرته الحرب، سيتجاوزهم في الترتيب الاقتصادي قريبًا فقط لأنهم مجتهدون للغاية.
وبالفعل فإن ماليزيا التي لم تشهد بتاريخها آية حروب أو ثورات مدمرة، حتى حينما استقلت عن بريطانيا، فقد استقلت عبر مفاوضات سلمية في عام 1957، بوقت متأخر حتى عن كثير من بلدان العالم العربي، بعد قرنين من وجود استعماري بريطاني نشط ومكثف، استعمار غير جذري من الطبيعة السكانية، والثقافية والهياكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية في البلاد، كما لم تشارك تاريخيًا ماليزيا عسكريًا في أي حروب خارج حدودها، وباستثناء اضطرابات شعبية حدثت عام 1969، تم حلها في حينها على أساس سياسة الأحزاب العرقية، حيث يمثل كل حزب السياسي عرقًا بعينه، فحزب للملاويين الأغلبية من السكان، وآخر للصينيين، وآخر للهنود، وكلتاهما أقليات عرقية، وتشكيل ائتلاف سياسي من هذه الأحزاب العرقية يتم فيه تقاسم السلطة وفقًا لمقتضيات الواقع العرقي للبلاد، بحيث اعترف الفرقاء السياسيون حينئذ بالتمييز الإيجابي لصالح عرقية غالبية السكان من الملايو في قيادة الدولة، ووظائف الإدارة العامة الحكومية، والقوات المسلحة، والتعليم، لكونها الأكثر فقرًا، وأقل تأهيلًا من ابناء الأقليات التي جاء بها المستعمر إبان عهد استعماره البلاد، كسياسة عامة متوافق عليها لائتلاف سياسي متماسك، وقابل للبقاء، وصيغة سياسية توافقية فريدة من نوعها، حكمت البلاد لفترة استمرت بلا انقطاع 60 عامًا، تم خلالها الوصول لمباشرة السلطة عبر ديمقراطية صناديق الاقتراع، لا بالانقلابات العسكرية، ولم تشهد فيه ماليزيا أي من الصراعات العرقية أو المذهبية، حتى لو وجدت بعض السلبيات والمظالم الاجتماعية والاقتصادية، لم يتطور أي منها لإراقة الدماء بين شركاء الوطن الواحد والقوميات المتعددة، وهذا ما وفر إلى جانب الثروة الأصلية للبلاد، والثقافة الإدارية التي خلفها البريطانيون عبر السنين المادة الأولية للتنمية الشاملة.
ما يحدث اليوم مثير جدًا فقد عاد من جديد د. مهاتير الاستراتيجي السلطوي الذي لا يحب أن يعارضه أحد، بعد تحالفه مع زميله اللدود السابق والمتجدد أنور إبراهيم وعائلته (زوجته وابنته)، وأنور السجين السياسي الذي كان يقضي محكومية ملفقة لأسباب سياسية كان الأول من دبرها لإقصائه سياسيًا إثر خلافات سياسية بينهما في التسعينات عادا بعد أن أصبح كلاهما معارضين لحكومة المنظمة الماليزية المتحدة التي تمادت في فسادها إلى عنان السماء، ليتصالحا فيما بينهما، ويطويا معًا صفحة الخلاف، وليعد مهاتير أنورا بتوليه منصب رئاسة الحكومة بعد مضي فترة سنتين، ذلك أن الحكومة الماليزية الجديدة التي يقودها الاستراتيجي المحنك د. مهاتير محمد وحليفه في تحالف إصلاحي يهدف إلى التغيير ومكافحة الفساد، بداية تريد أن تخلص الماليزيين من ثقافة نمطية سلبية راسخة، تتمظهر اليوم بعادة اعتماد ملايين الأسر الماليزية ذات الدخل المحدود على تلقي المساعدات الإعاشية التي اعتادت أن تتلقاها منذ عام 2012، وفق برنامج صندوق ماليزيا أولا السيادي، الذي ثارت حوله زوابع جدل عاتية في السنوات الاخيرة، بسبب اتهامات الفساد واسع النطاق التي أطاحت برئيس الحكومة نجيب رزاق الذي يترأس المنظمة الماليزية المتحدة التي حكمت ماليزيا لمدة ستة عقود متواصلة، قبل هزيمتها أخيرًا في الانتخابات العامة وسط غضب الجماهير الماليزية من فضيحة اختلاس ملياري دولار من أموال الصندوق المشار إليه، علمًا أن نجيب هذا وريث رئيس حكومة سابق، ويدين بوصوله للحكم لمهاتير نفسه الذي حكم أكثر من 20 عامًا، وكان نجيب بعد توليه هو من أسس الصندوق السيادي، والسبب المباشر وراء الخسائر الكبيرة التي مني بها الصندوق العتيد الذي كان يستهدف تقدم المساعدات لحوالي 7.2 مليون ماليزي، من شعب يبلغ تعداده حوالي 32 مليون نسمة، ففي وقت سابق من شهر أغسطس (آب) من هذا العام، بدأت الحكومة الماليزية تمارس محاولة فطام الناس عن برنامج المساعدات عن طريق تقليل كمية المساعدات قبل أن يتم إيقافها تمامًا.
فكان أن أعلن عند طرح الميزانية الوطنية لعام 2019 عن خفض مخصصات المساعدات المخصصة لذوي الدخل المحدود من 6.8 مليار رينغيت ماليزي إلى 5 مليار رينغيت، ذلك أن الصندوق السيادي يتعثر، وتتراكم خسائره وديونه بالمليارات، وتتقهقر الأوضاع الاقتصادية في البلاد بشكل سيئ بسبب انخفاض الأسعار عالميًا للسلع التي تصدرها ماليزيا، على ضوء توقعات سوداوية من أن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في ماليزيا يتباطأ من 5.9% في عام 2017 إلى 4.8% في عام 2018 إلى 4.4% في عام 2019 و3.6% في عام 2020.
وإزاء هذه الخسائر للصندوق أعلن رئيس الحكومة الجديدة الدكتور مهاتير بن محمد في خطابه في وقت سابق، إن حكومته لن تعيد خطأ من سبقها، ولا تنوي القيام بأي أنشطة تجارية، وأنها ستترك مجال الأعمال التجارية للقطاع الخاص، وسيقتصر واجب حكومته الأساسي على تمرير القوانين وإنفاذها، وبذل ما يلزم لمساعدة القطاع الخاص القيام بالأعمال التجارية والتنموية لأن مستثمري القطاع الخاص في نهاية المطاف كما قال سيؤدون للحكومة 36٪ من أرباحهم كضرائب.
الأمور إذًا باتت مبشرة، وواعدة مع عودة الثنائي الإصلاحي مهاتير وأنور كليهما، وتغيرت السياسة الماليزية بشكل لا رجعة فيه نحو الإصلاح الذي كان ينادي به أنور بالسابق، ويتجادل فيه مع مهاتير، ودفع ثمنه من حريته، بعد أن قال الشارع الماليزي كلمته الفصل، وانتخب الشعب معارضته لأول مرة منذ 60 عامًا من الاستقلال، بالرغم من كل محاولات التزوير، والضغوطات التي مارستها الحكومة، وعلى عكس الأجيال السابقة، لم تكن تتأثر أجيال الناخبين الشباب الماليزي بالحملات الحكومية التي استمرت بزخم كبير، ولآخر لحظة، والتي كانت تتكون أساسًا من المساعدات النقدية ومواد عينية، ومحاولة استغلال نظام الانتخابات المشوه، في عدم تمكين كل من مهاتير وأنور من الفوز، وبذلا محاولات خارقة من أجل عرقلة وصول المعارضة، حتى كاد أنور أن لا ينجح فعلًا، لكن مع هذا الحجم الهائل من الفساد، باتت المساءلة والانفتاح والتقدم الديمقراطي أخيرًا في متناول يد الماليزيين، ولا مناص عنها.
لكن ماذا بعد هذا الفوز الانتخابي الساحق والفريد للمعارضة في ماليزيا؟ هل يكفي النجاح بممارسة الانتخابات لأحياء سنة الديمقراطية؟ فالمعلوم أن الانتخابات ليست كل شيء، لأن الديمقراطية تعني فيما تعني، وتتطلب فصلًا قويًا بين السلطات، وإصلاح الإدارة والقضاء، وحماية لحقوق الإنسان، وماليزيا أيضًا لديها مشاكل مع حقوق الإنسان، فضلًا عن المساواة المعطوبة، ويظل تطبيق القانون ضعيفا، والقضاء الماليزي فاسدًا إلى حد ما، ومسيسًا وغير مستقل، كما لا تزال ماليزيا تنظم مجتمعها على غرار العرق والطبقة، وتمييز للغالبية المسلمة والماليزية على الأقلية الصينية النشطة اقتصاديًا، في نظام يوصف في أماكن أخرى من العالم بأنه نظام الفصل العنصري، في حين تنتقد فيه ماليزيا نظام ميانمار على الفظائع العنصرية التي ارتكبها ضد السكان من أقلية الروهينجا العرقية المسلمة.
في حين تتزايد فيه النزعة الإسلامية المحافظة في البلاد، ما يهدد التماسك الاجتماعي في البلاد متعددة الأديان والعرقيات، وازداد معه الشعور المناهض للمثليين في السنوات الأخيرة، ولذلك فحين أراد مهاتير تحطيم سمعة منافسه ونائبه أنور، لم يجد أقوى من تلفيق اتهامه بجرم اللواط، ليحكم عليه بموجبها بالسجن عشرين عاما كافيه لتغييبه عن الساحة السياسية أمدًا طويلًا، وتشويه سمعته لدى أوساط العامة، وضمن بوادر الإصلاح الجديد التي تلوح في الأفق السياسي الماليزي يأتي إعلان الحكومة الماليزية الشهر الماضي، إنها ستقوم بوقف تنفيذ عقوبة الإعدام التي تنتظر 12 ألفًا من المحكومين بها عبر البلاد بهدف إلغائها لاحقًا، كما قالت الحكومة إنها ستزيل ضريبة وردية على منتجات الدورة الشهرية.
لكن الأهم من ذلك أن اللجنة الماليزية لمكافحة الفساد تمكنت أخيرًا من القيام بعملها دون عائق. فقد داهمت سلطات مكافحة الفساد ممتلكات ومنزل رئيس الوزراء السابق نجيب رزاق، الذي يواجه حاليًا 38 تهمة فساد، واستولت على المجوهرات والحقائب الفاخرة التي تقدر قيمتها بملايين الدولارات. وفي سبتمبر (أيلول)، فضلًا عن يخوت فارهة، وطائرات خاصة، في حين قُبض على رئيس الحكومة السابق القوي بتهمة إساءة استعمال السلطة، بينما اعتُقلت زوجته الشهر الماضي، ووجهت لها عشرات الاتهامات تتعلق بغسيل الأموال، وبالفعل مثل نجيب هذا الأسبوع أمام المحكمة مع نائبه السابق لمواجهة ست تهم تتعلق بالخرق الجنائي للثقة التي تنطوي على إساءة استخدام 6.6 مليار رينجت (1.6 مليار دولار) في الأموال الحكومية.
كما قامت الحكومة بتجميد العديد من مشاريع البنية التحتية الممنوحة للشركات الصينية تبلغ قيمتها أكثر من 40 مليار دولار، للاشتباه بأن حكومة رزاق المتساهلة مع الصين منحتها للشركات الصينية بسبل الفساد، وقد اتهم مهاتير سلفه نجيب أنه باع ماليزيا للصين، وقبض الثمن، عبر عمولات فساد المشاريع الصينية، ومن المرجح أن تؤدي خطوة ماليزيا هذه إلى توتر العلاقات مع الصين، كما تشعر الحكومة الماليزية الجديدة بقلق عميق من الطموحات البحرية الصينية، والعسكرة التي لا هوادة فيها لخصائص الأراضي المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي، وبعض الجزر التي تطالب بها ماليزيا، وتشعر بالقلق من احتمال السيطرة الصينية على واحدة من الممرات المائية الأكثر أهمية في العالم.
ونتيجة لذلك، يسعى مهاتير ذو العقلية المستقلة بقوة إلى إقامة علاقات استراتيجية أقوى مع اليابان والغرب من أجل تقليل الاعتماد العميق لبلاده على الصين، في تحول ملحوظ للأحداث، أصبحت ماليزيا التي طالما اعتبرت واحدة من أقرب الأصدقاء للصين دوامة للمقاومة ضد الهيمنة الاقتصادية في بكين في آسيا، وأثار مهاتير مخاوف بشأن افتقار المشروعات الصينية إلى الشفافية والجدوى الاقتصادية وإدماج العمالة والتكنولوجيا والإدارة المحلية إلى الحد الأدنى. في وقت تتصارع فيه ماليزيا مع ديونها المتضخمة (ما يقرب من 250 مليار دولار)، كما تشعر بقلق عميق إزاء الوقوع في شرك الديون الصيني مثل جارتيها سريلانكا ولاوس، لكنه حكومة مهاتير الجديدة تقول إنها لا تعارض الاستثمارات الصينية في حد ذاتها، لكن ما تسعى ماليزيا إلى تحقيقه هو استثمارات عالية الجودة، تتسم بالشفافية، وخالية من الفساد، وفي نفس الوقت تخلق وظائف لائقة للسكان المحليين، وتتضمن نقل التكنولوجيا، وتدريب الأيدي العاملة واقتباس الخبرات الفنية، تلك هي الوصفة السحرية الخاصة بمهاتير التي استخدمها بفعالية سحرية في السابق لخلق هذا الإنجاز التنموي الماليزي المثير للإعجاب.
ولعل الأيام القادمة ستثبت أن تحالف الإصلاح السياسي الذي يجمع الصديقين اللدودين اللذين اتفقا واختلافا، واجتمعا وافترقا في سبيل الوطن قادر على الاستجابة لمطالب الأمة الماليزية في التغيير والإصلاح بشكل ديمقراطي وعقلاني، بحيث تبقى ماليزيا قدوة حسنة لشعوب الأمة الإسلامية والعالم.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست