تقول كاي ردفيلد جاميسون عن دور الاكتئاب في الإبداع: «إن الاكتئاب مرض يجبر الإنسان على التوقف وتأمل حياته والنظر إلى أعماقه نظرة وجودية مليئة بالتساؤلات عن ماهية الحياة والهدف من الوجود».
ويقول سقراط: «إذا كان الجنون هدية السماء، فالكآبة طريقنا إلى تلقي البركات».
من بين أهم الكتب التي قرأتها في الآونة الأخيرة، يقدم من خلاله لويس ولبرت ما وصفه بأنه أسوأ تجربة في حياته: مرض الاكتئاب أو كما سماه «الحزن الخبيث» ويعود سبب هذه التسمية حسب الكاتب إلى أن المشاعر السلبية التي يسببها الاكتئاب بوسعها أن تنتشر وتحتل العمليات العقلية الأخرى كما تفعل الخلايا السرطانية.
ولم يكتف ولبرت بعرض تجربته الشخصية فقط، بل تجاوز ذلك ليقدم دراسة شاملة للمرض وكل ما يتعلق به: بداية من تاريخ ظهوره، وتعريفه، ومسبباته، وتفسيراته البيولوجية، ومضاداته، وعلاجه النفسي، وصولًا إلى بعض الحلول التي اعتبرها مجدية بناء على تجربته.
ولبرت أفرد مساحة كبيرة في كتابه لدراسات ونظريات نفسية، وتعريفات فلسفية وعلمية لكل ما له علاقة بالموضوع، سواء الأشياء الماقبل الاكتئاب ( الوراثة، التنشئة، الهرمونات، الجينات…) أو الأشياء المابعد الاكتئاب ( الحالة النفسية، الانتحار…) كما أنه تجاوز الأمر إلى تناوله لأهمية الحزن ووظيفة الاكتئاب عند الجنس البشري فالإغريق مثلا رأوا فيه ضرورة للإبداع وطريقا مقدسة لتلقي الإلهام، وقد أثنى أرسطو على الكآبة لأنه ظنها مرتبطة بالإبداع في جوانب الفلسفة والشعر والفن.
وحاول الكاتب جرد التفسيرات النفسية لمرض الاكتئاب عند مختلف رواد مدارس التحليل النفسي على غرار المدرسة الكلاسيكية التي طورها فرويد وكارل إبراهام… هذه التفسيرات والنظريات تختلف فيما بينها لكنها تجمع كلها على اهمية الفقد ودور التجارب التي يتعرض لها المرء في فترة طفولته!
ويعتبر الاكتئاب نتيجة حتمية لصراع قوي داخل الأنا يؤدي إلى سيطرة مشاعر اليأس والضعف بسبب الفجوة بين أهداف الشخص التي يسعى لتحقيقها وقدرته على ذلك، حسب ببرنج. كما أن فقدان التقدير الذاتي جزء لا يتجزأ من الاكتئاب. وتعود الصورة التي يكوّنها الشخص عن نفسه إلى التنشئة الاجتماعية عموما وتربية الأسرة خاصة، ففرويد يؤكد على قوة تأثير سلوك الأبوين في شخصية الطفل وتصوره الاجتماعي وأن هذا التأثير يتأسس في مرحلة مبكرة من حياة الإنسان. وعلاقة بذلك عرض ولبرت النماذج الأربعة لتعلق الطفل بأمه وردود فعله إزاء غيابها:
التعلق الآمن
التعلق المزعزع الاجتنابي
التعلق المزعزع المتباين
التعلق المزعزع المشتت
واستند إلى دراسات منجزة ليؤكد أن ثمة نماذج تتكرر في ثقافات أكثر من غيرها، وليؤكد أيضًا أن نسب احتمال الإصابة بالاكتئاب يختلف من نموذج لآخر كما تختلف أعراض الاكتئاب أيضًا، وهذا الاختلاف هو نتيجة لسلوك الوالدين تجاه الطفل، فالأم التي تستجيب بسرعة لمتطلبات طفلها وتغمره بالحنان والاهتمام تخفض احتمال إصابة طفلها بالاكتئاب بينما تزيد الأم المهمِلة من ذلك.
يعطل الاكتئاب أيضا قدرة الشخص على الاستمتاع بأي شيء في حياته، ويحمل صورة معرفية مشوهة عن ذاته يقفز بها إلى وضع استنتاجات سلبية عنه والتركيز عما راكمه من أشياء سلبية مع إهمال كامل للإيجابيات… فالذاكرة حسب ولبرت لها وظيفة أساسية في المرض، حيث تستدعي الأحداث التي لا تسر بسبب ممارسة المريض لنشاط ذهني تسطو عليه الذكريات السلبية دون وعي منه.
أما فيما يخص التفسيرات البيولوجية، وهو الفصل الذي استغلق عليّ فهمه فهمًا كاملا لطبيعة المفاهيم العلمية التي وُظفت فيه، فقد أكد ولبرت أن الاكتئاب يحدث نتيجة تفاعل داخلي بين مناطق محددة في الدماغ مثل اللوزة المسؤولة عن الانفعالات ومناطق أخرى مسؤولة عن الجانب المعرفي، وذلك بتدخل خطوب الحياة التي تحفز انفعال الحزن مما يولد أفكار سلبية تسيطر على التفكير من شأنها تحويل الحزن العادي إلى حزن خبيث. ويساهم في ذلك تغيير تركيز بعض الهرمونات في الدماغ كالسيراتونين والنورادرينالين إضافة إلى تغييرات أخرى في الدماغ.
يعرف عن الاكتئاب أنه يسحب الإنسان من حياته تمامًا، ويغيبه بالكامل عما يحدث فيها ويجعله جثة مفرغة من الحياة تمشي على الأرض. ولعلاجه نفسيا ثمة طرق عديدة يستند معظمها إلى نظريات فرويد، وبالتالي تُرجع أسباب الاكتئاب إلى علاقة غامضة بين الشخص وما فقده، مما يؤدي إلى غضب مكبوت يوجهه الشخص نحو ذاته فيسعى إلى تدميرها.
وتسعى طرق التحليل النفسي في العلاج إلى جلب القوى المسببة للمرض من اللاوعي إلى الشعور الواعي لتجعلها تحت سيطرة الأنا. ويلعب الإسقاط والمقاومة دورا هاما في هذا التحليل إذ أن الأول يروم تشويه العلاقات لتناسب توقعات الشخص للأحداث التي مرت، بينما تسعى الثانية لكبح ذكرياته. وبخلاف التحليل النفسي التقليدي الذي يهدف إلى بناء شخصية المريض من جديد ويتطلب مدة طويلة، فإن العلاج النفسي الحركي يستغرق مدة أقصر يحاول من خلالها إعادة تشكيل المعيقات النفسية التي يعاني منها المريض من خلال فهم الدور الجوهري لعلاقاته الإجتماعية وكيفية تفاعله معها، وذلك عن طريق جلسات علاجية نشر الكاتب نماذج مما يجري أثناءها من حوارات بين المعالج والمريض.
ويختلف تشخيص الاكتئاب من ثقافة إلى أخرى، ففي الهند مثلا يعتبر حالة حادة من الحزن، وفي الغالب يعزو المريض إصابته إلى القضاء والقدر!
وفي الصين على المريض أن يشكو من الصداع مثلا بدلا من الحديث عن مشاعره، لأن ذلك يتنافى مع اللياقة في الثقافة الصينية.
أما اليونانيون القدماء فقد كانوا يعتبرونه عقابا تنزله الآلهة على الأشرار!
بينما يعتبر المسحيون الأوائل المرض العقلي بأنه من فعل الشيطان ليختبر إيمان المريض!
رأي: الكتاب مهم جدا لمن يبحثون عن تفسيرات منطقية لحالة يعاني منها الكثيرون، خاصة في مرحلة الشباب.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست