كما أن هناك متخصصون في الذرة والإلكترون يوجد متخصصون في الصراع الفكري وكما توجد حرب أسلحة وذخائر توجد أيضًا حرب أقلام وأحبار تسبقها بمراحل وتشرعنها وهي أشد وطئًا من أي حرب حسية فمن يؤثر على أفكار الناس يستطيع بالبداهة السيطرة عليهم وعلى كل ما يملكونه.

وقدقسم المرحوم مالك بن نبي العوالم إلى ثلاثة وهي عالم الأشخاص وعالم الأشياء وعالم الأفكار ويرى أن عالم الافكار أكثرهم ديمومة وبقاء، وضرب مثالا بنشوء دولة الإسلام حيث أشيع في إحدى الغزوات أن الرسول صلى الله عليه وسلم قتل فجاء القرآن يقرع الصحابة ويقول لهم إن محمدًا ما هو إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، بهذه الآية يخرجون من عالم الأشخاص وهو شخص الرسول إلى عالم الأفكار وهو ما جاء به الرسول، وقيمة أي مجتمع في نظره بعدد الأفكار التي ينتجها لا الأشياء والأشخاص.

وكان دائما ما ينتقد تكديس الأشياء التي أصبحت ظاهرة في العالم العربي والإسلامي والتركيز على بناء السكن لا الساكن في محاولة بائسة لبناء شبه حضارة ويكون تقدم أي مجتمع مرهونًا بحجم الأفكار التي ينتجها، والأفكار هي ما تنتج كل شيء، كنموذجي ألمانيا واليابان حيث تدمر عالم الأشياء لكن الأفكار بقيت فعادوا كما كانوا وفي وقت وجيز.

وقد كتب مالك بن نبي كتيبًا لا يتجاوز خمسين صفحة مكثفة كعادة جميع كتبه لخص فيه رأيه في إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث وناقش موضوع الصراع الفكري الذي تسببوا فيه وأثره وظلاله على من تتلمذ على أيديهم من المسلمين وحذوا حذوهم وسأعرض بعض ما كتبه لضرورته في هذا المقال، وقد بني الكتاب على قاعدة يعرفها متخصصو الصراع الفكري كما يعرفون أبنائهم ألا وهي: (أن كل فراغ أيديولوجي لا تشغله أفكارنا ينتظر أفكارًا منافية، معادية لنا).

لم يؤثر المنتقدون للحضارة الإسلامية كثيرًا نظرًا لعدم وجود الاستعداد النفسي بعكس طبقة المادحين الذين كان لهم الأثر الملموس في الفكر الإسلامي وكان لكتاباتهم وقع أكثر في تطور أفكارنا ففي المرحلة الأولى من الاستشراق كانوا يريدون استكشاف الحضارة الإسلامية بقصد إثراء حضارتهم أما في المرحلة الثانية الاستعمارية فقد كانت بقصد استكشاف ثقافتنا لا بقصد تعديل ثقافي بل من أجل تعديل سياسي يتناسب مع أطماع الأوروبيين الاستعمارية للبلدان العربية والإسلامية وعند زحف الجحافل الاستعمارية أصاب كثيرًا من المثقفين بالصدمة وشبه شلل في حصانتهم الثقافية وبعضهم من ألقى أسلحته في الميدان مبكرًا كفلول جيش منهزم وسلك مسلك التقليد الأعمى للتعويض عن نقصه ومضى في رحلة البحث عن نجاته بالتقليد بالزي وفي كل حركاتهم وسكناتهم حتى لو كانت شكلية خالية من القيم الغربية الحقيقية.

يناقش ابن نبي أدب الفخر والتمجيد الذي بدأ من بداية القرن التاسع عشر على إثر ما نشره علماء مستشرقون كفكر يبحث عن حقنة اعتزاز للتغلب على المهانة التي أصابته من الثقافة الغربية المنتصرة كما يبحث المدمن عن حقنة المخدر التي يستطيع بها مؤقتًا إشباع حالته المرضية وكذلك فيمن جاء ليعوض تخلفه العلمي بحقنة اعتزاز أخرى فقام يفتش في القرآن ما يوافق العلم الحديث ليكتفي بجهله ويغض بصره عن تخلفه العلمي المشين وعند طرح المسلم أي مشكلة من مشكلاته وقبل وصولها للمتخصصين لتحليلها يسابق المعامل الاستعماري بدراستها فإن كان بحثه صحيحًا قللوا من شأنه وإن كان خاطئًا زادوا في شحنة خطئة بطريقة أو بأخرى وهذه القاعدة العامة في الصراع الفكري، ويذكر لنا قصة مضحكة مبكية حدثت إبان الاستعمار ويقول:

انعقد أخيرًا بباريس مؤتمر العمال الجزائريين بأوروبا وبهذه المناسبة تقرر من لدن المشرفين على المؤتمر توزيع كتيب لصاحب هذا العرض تناول فيه مشكلة من مشاكلنا اليوم بالخصوص في الجزائر البلد الذي اتخذ من كلمة (ديموقراطية) شعاره الدستوري.

لكن أصحاب الاختصاص في الصراع الفكري لم يمهلوا هذه المناسبة من اهتمامهم ولم يفتهم ما تقرر توزيعه ولكن كيف يسدون الذريعة أعني كيف يسدون الطريق على الأفكار المعروضة في الكتيب الذي سيوزع أثناء المؤتمر حتى لا يصل مداها على رؤوس المؤتمرين أو على الأقل حتى يكون لها أقل مد ممكن؟

وإذا بنا نرى الدعوة توجه إلى تلك السيدة الألمانية التي وضعت أو وضع اسمها على ذلك الكتاب ذي العنوان الجذاب (شمس الله تشرق على الغرب) وفيه ما فيه من مدح وتمجيد للحضارة الإسلامية.

وتقدمت السيدة وقدمت كتابها للمؤتمر فانتقل على الفور بروحه من مجال المشكلات الحادة القائمة اليوم إلى أبهة وأمجاد الماضي الخلاب. ولم يكن الصديق الذي ذكر لبن نبي تلك القصة على علم بموضوع الصراع الفكري وهو يقول: في الأخير قامت القاعة كلها لتحيي السيدة وتناسوا مشكلاتهم!

وهكذا يبقى الضمير الإسلامي في دوامة صراعه الباطن يسكنه أحيانا ما يكتبه المادحون ويثيره أحيانا أخرى ما ينتجه المفندون وبالتالي يكون هذا الإنتاج مجرد تبذير وهدر لطاقات فكرية ثمينة لم يحسن استخدامها تدور في حلقة مفرغة.

يرى بن نبي أن نتاج المستشرقين بكلا نوعيه كان شرًا على المجتمع الإسلامي لأنه ركب في تطوره العقلي عقدة حرمان سواء في صورة المديح والإطراء التي حولت تأملاتنا عن واقعنا في الحاضر وغمستنا في النعيم الوهمي الذي نجده في ماضينا أو في صورة التفنيد والإقلال من شأننا وفي كلتا الحالتين تصب هذه الدراسات في روحنا حرمانًا مزدوجًا لا نستطيع التخلص منه إلا إذا ذكرنا السلم الذوي وضعه لنا النص القرآني الذي انطلقت بسببه الحضارة الإسلامية، والتي هي لنا المناخ العقلي باحترام العلم وأهل التخصص.

فعندماسئل عمر عن الأب المذكور في القران وعمر ليس من أهل اللغة ولا من أهل التفسير فقال أي سماء… وانصرف لعمله فقد أكد النص القرآني الفرق بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون وافتتحت آياته باقرأ ووضع مكانه للعلم والدليل العقلي فهيأ بذلك المناخ العقلي الذي يحترم العلماء وأهل التخصص.

يعترف بن نبي بوجوب استخلاص موقفنا من إنتاج المستشرقين فنقول أولا إنه لا يمكن نكران قيمته العلمية بل نراه أحيانًا يستحق كل التقدير لما يتسم في بعض أصنافه بطابع أخلاقي ممتاز لا يمكن نكرانه كشهاده نزيهة من طرف شهود نعرف قيمتهم كعلماء ولكننا نغفل جانبًا أساسيًا في الموضوع إذا لم نأخذ في حسابنا أن كل ما ينتجه العقل في هذا القرن العشرين الخاضع لمقاييس الفاعلية لا يخلو من بعد عملي قد يستغل في ميدان السياسة والانتفاع حيث تصبح الافكار سواءً منها ما كان تافهًا مسخّرة لتكون وسائل افتضاض الضمائر والعقول وأن الكتب بغاليها وتافهها تقع بمجرد خروجها من الطبع وأحيانًا دون أن يشعر أصحابها في أيدي أخصائيين يسخرونها في الصراع الفكري فيصيرونها أدوات للمشاغبة. ولكن هيهات أن يفقه هذا الحديث (الفكر المتنور) الذي يستمع لكم إنما على بصره لغشاوة فهو يتلقى أفكار الغير بكل تقدير.

إن المجتمع الذي لا يصنع أفكاره لا يمكنه على أي حال أن يصنع المنتجات الضرورية لاستهلاكه ولا المنتجات الضرورية لتصنيعه ولن يمكن لمجتمع في عهد التشييد أن يتشيد بالأفكار المستوردة أو المسلطة عليه من الخارج، وإن في تجربة كوبا أكبر دليل على ذلك، فإنها تشق طريقها اليوم بالخبرة التي تكتسبها في التطبيق لا في الكتب وقد جاء في خطاب ديكارت المشهور:

«إنه لمن الممكن الوصول إلى معرفه تطبق تطبيقًا نافعًاا في الحياة بحيث تترك مدارس التعليم تلك الفلسفة السكولاستية وتعلم فلسفة تقبل التطبيق وتتيح لنا بعد معرفه تأثير النار والهواء والأجرام الفلكية والسموات وكل الأجرام التي تحيطنا أن نستخدمها تحت قانونها بالذات لمصلحتنا الخاصة بحيث نتمكن من امتلاك الطبيعة والهيمنة عليها».

ومنهج ديكارت هو ما كون في أوروبا المناخ العقلي الذي تزرع فيها العبقرية المصلحية التي تتميز بها الحضارة الجديدة فعلينا نحن أن نكتسب خبراتنا كذلك من خلال الأفكار القابلة للتطبيق وأن نحدد نحن موضوعات تأملنا وإلا نسلم بأن تحدد لنا وبكلمة، علينا أن نستعيد أصالتنا الفكرية واستقلالنا في ميدان الأفكار حتى نحقق بذلك استقلالنا الاقتصادي والسياسي.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد