وقفنا في مقالنا السابق مع المملوك مذ جيء به من وسط آسيا صبيًا صغيرًا إلى القاهرة ودمشق، ورأينا كيف انتظم هذا المملوك في سلك الجندية الأيوبية بادئ الأمر، وطرائق دخوله في “الطباق” أو الثكنات العسكرية التي كانت في قلعة الجبل بالقاهرة، ورأينا النظام الفروسي والتربوي الذي اندرج عليه هؤلاء المماليك في كلياتهم العسكرية، فأتينا بنص العلامة المؤرخ تقي الدين المقريزي (ت845هـ) وهو نص مهم أثنى هو شخصيًا فيه على طرائق التربية العسكرية والدينية لهؤلاء المماليك، ونتائج هذه التربية على المستويين السياسي والعسكري لدولة المماليك فيما بعد.
أما نظام الإنفاق على المملوك الكتابي أثناء مراحل تعليمه المختلفة بالطباق، فقاعدته أن المملوك الصغير لا يحصل على راتب أو أجر، ولا يملك سلاحًا ولا حصانًا، ولا يحصل على إقطاع إلا عند عتقه، وقد حدثت استثناءات لهذه القاعدة عند بعض السلاطين.
أما حفل التخرج، فكان يشتمل أولاً على “عتق” المملوك ليصبح حرّاً، ثم تخصص الدولة له الخيل والقماش “الزي الرسمي”، فيندرج في فئة “المماليك السلطانية”، ويحصل من السلاح ما يلزمه من جميع أنواع الأسلحة من السيوف والقسي والنُشّاب والرماح والدروع والدبابيس والأطبار وغير ذلك، وعند العرض يحصلُ هذا المملوك على “إجازة” بانتهاء تعليمه يُطلق عليها “عتاقة”؛ لأنها تُشير إلى عتقه، وأنه صار جنديًا مدربًا، ويُطلق على هذا العرض الذي يُعتق فيه “الكتابية” بـ”خرج” أي التخرّج، ولا توجد بالمصادر المملوكية التي بين أيدينا اليوم ما يوضّح مدة مراحل التعليم للمملوك الكتابي، فهي غير ثابتة على ما يبدو، وتتراوح ما بين السنة إلى السنتين إلى أكثر من ذلك وأقل، لكن سلاطين الدولة المملوكية الثانيةلم يحفلوا بمدة تعليم مماليكهم، بل اهتمّوا بتخرّجهم أفواجًا بعضها تلو بعض في سرعة غير محمودة.
والجيش المملوكي قد تكوّن من أربع فئات أساسية، هي:
-
المماليك السلطانية: ويتكوّنون من مماليك السلاطين السابقين وكان يُطلق عليهم “القرانصة”، ومماليك السلاطين القائمين على الحكم وكان يُطلق عليهم المشتروات أو الجلبان أو الأجلاب، ومماليك الأمراء الذين ماتوا فكانوا ينتقلون بحكم وفاة الأمير أو عزله من الخدمة العسكرية أو مصادرة أملاكه إلى خدمة السلطان، وكان يُطلق على هؤلاء اسم المماليك السيفية.
-
أجناد الأمراء، وهم مماليك الأمراء المستقرين في خدمة الدولة، من أصحاب الإقطاعات والوظائف.
-
أجناد الحلقة، وهم الجيش الاحتياطي المملوكي ممن كانوا لا يُستنفرون إلا في أوقات الحروب والأزمات الكبرى، وغالبًا ما انضم إليهم أبناءُ العامة والمتعممون والتركمان والعربان “البدو” وغيرهم.
-
فئة “أولاد الناس”، وهم أبناء الأمراء المماليك، وغالبًا ما أُضيفوا لديوان الجيش المملوكي، وكانت لهم مرتبات ثابتة إلا بعض الاستثناءات القليلة التي ارتآها بعض السلاطين.
ولأن “المماليك السلطانية” هم الفئة الأهم والأبرز في الجيش المملوكي آنذاك، فقد كانت الترقية في وظائف الدولة ومن رتبة إلى رتبة هي الألصق بهم، والأقرب إليهم، حتى يبلغ المحظوظ منهم منزلة السلطنة
ويختار السلطان من هؤلاء المماليك بعد تخرّجهم من الطباق عددًا يُلحقهم بخدمته ويختصُّ بهم لصفات فيهم، منها قوة البنيان، وجمال الخلقة، وطول القامة، ويُطلق على هؤلاء اسم الخاصكية، وهم “الحرس السلطاني الخاص”، وفيما بين الجندية والإمارة، يتدرج هؤلاء الجنود في وظائف البلاط من الجمدارية والسلحدارية والجمقدارية والدوادارية والأوجاقية والخازندارية، ويسيرون في سلّم الترقية أسرع من سائر المماليك السلطانية.
وظلّت قواعد تربية المماليك التي وضعها سلاطين الدولة المملوكية الأولى مرعية سائدة حتى أوائل العصر المملوكي الثاني، غير أنه أصابها من التغيير والتبديل ما جعل المؤرخين يُطلقون على أولئك السلاطين الأوائل ملوك السلف، وإذا أطْرَوا عملاً قام به سلطانٌ من سلاطين العصر المملوكي الثاني؛ فإن إطراءهم يكون بسبب مُطابقة هذا العمل للقواعد القديمة.
أما ترقية الجندي الخاصكي إلى “أمير”؛ فقد جرى التقليد أنه إذا تأمّر أحد من المماليك نزل من قلعة الجبل وعليه ملابس الأمراء وهي التشريف والشربوش، وأوقدت له شوارع القاهرة، فيسير إلى المدرسة الصالحية بين القصرين ويحلف عند قبر الصالح بالقبة، ويحضر تحليفه حاجب الحجّاب، وتبدأ اليمين التي يحلفها الأمير بإقرار من الأمير عن نفسه، والقسم بالله سبحانه وتعالى وبالقرآن الكريم وبالنبي صلى الله عليه وسلم، بأن يظلّ طوال حياته مخلصًا للسلطان متفانيًا في خدمته ومحبّته ونصحه، وأن يتعهّد بأن يكون وليًا لمن والاه عدوًا لمن عاداه، ولعل اختيار قبة الصالح أيوب مكانًا يجري فيه تأمير المملوك راجع إلى اعتراف المماليك بفضل السلطان الصالح أيوب عليهم، وفي عهد الصالح قلاوون وأولاده أدخلوا إضافات إلى هذه الاحتفالات، فقد جرت العادة أن يحلف المماليك في ضريح المنصور قلاوون، ويكون التأمير لعدد من المماليك في وقت واحد، وأن يُقدم حاجب الحجاب لكل منهم بوقًا وعلمًا نيابة عن السلطان، ويلبس الأمير شربوشًا مُكلّلاً مزركشًا، وهو غطاء للرأس يُشبه التاج على شكل مثلث يُلبس بغير عمامة، كما يرتدي تشريفًا خِلعة من الملابس الخاصة تتناسب مع رتبة الأمير ووظيفته، ثم يركب الأمراء الجدد فيشقون شوارع القاهرة وقد أوقدت لهم حتى يصعدوا إلى قلعة الجبل، وينتهي الاحتفال بالطلوع.
وغالبًا ما تكون أولى درجات الإمارة “أمير خمسة” أو “أمير عشرة” أي قائدًا لعشرة جنود، ثم يترقى إلى أمير عشرين، ثم طبلخاناة وهي رتبة وسط في سلك الإمارة تعني قيادة أربعين إلى ثمانين جنديًّا، ثم أعلى مراتب الإمارة هي “أمير مائة مقدّم ألف”، وهي بمثابة رئيس لإحدى فرق الجيش، فهو أمير على مائة أمير، ومُقدَّم على ألف جندي.
وفي مقالنا القادم، سنقف إن شاء الله، مع أهم الوظائف السياسية والعسكرية التي ارتقى إليها هؤلاء المماليك في النظامين العسكري والإداري، والرتب العسكرية التي عرفوها، ومقدار التراتبية “الهيراركية” التي تمتّع بها الجيش المملوكي، ومدى احترام المماليك للنظام العسكري والفروسي، فضلاً عن الوقوف مع أهم المصادر التي اعتمد عليها هذا الجيش في الإنفاق على كبار أمرائه وأفراده وقوات الاحتياط التي كانت على أهبة الاستعداد لأي طارئ من المغول أو الصليبيين لتكون عونًا للقوات الأساسية أمام الأعداء والغُزاة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست