عقب الاستعدادات المملوكية المالية والعسكرية، أمر السلطان قطز بتنفيذ قرارات مجلس الحرب المملوكي الذي وقفنا معه في مقالنا السابق، والمتمثّلة بالخروج لملاقاة المغول في أرض الشام، فكلما ابتعدوا عن مصر، وقابلوا العدو في أرضه كان نصرًا مرحليًا بلا شك، أو استفادة بعامل الوقت إن هُزموا ليتمكنوا من إعادة المحاولة مرة أخرى.
وقد خرجت القوات المملوكية في منتصف شهر شعبان سنة 658هـ من القاهرة، والتقت الفرق والألوية المختلفة المتتابعة في المعسكر العام في مدينة الصالحية – بمحافظة الشرقية الآن – وفيها شحذ قطز الهمم، ووضع خطة التحرك، وجعل الأمير بيبرس على رأس فرقة استطلاعية تتقدم الجيش، وأصبح هو القائد العام للجيش مع أتابك العسكر “وزير الدفاع” الأمير أقطاي المستعرب، ويمكن تتبع تحركات الجيش المصري المملوكي قبل وأثناء المعركة من خلال ما يلي:
1- تحريك فرقة استطلاعية أو مقدمة الجيش – أو جاليشه (1) بالاصطلاح المملوكي – بقيادة الأمير ركن الدين بيبرس تنطلق أمام الجيش المملوكي، تكون مهمتها تحرير غزة ودحر المغول في منطقة الساحل الفلسطيني لتأمين الطريق واستدراج القوات المغولية الأكبر عددًا في حمص والبقاع (2)، وقد نجحت بالفعل في تحقيق الأهداف الموكلة إليها، وكانت هذه الهزيمة هي الأولى في تاريخ المغول غير أنها لم تكن حاسمة (3).
2- اتجاه الجيش المملوكي من الصالحية إلى غزة ثم إلى عكا للتأكد من نوايا الصليبيين ثم التوجه صوب مرج ابن عامر ومنها جنوبًا إلى عين جالوت القريبة من بيسان؛ حيث بدأت طلائع القوات المغولية بقيادة نائب هولاكو على الشام القائد العسكري كتبغا نوين وبمعاونة بعض الأيوبيين المتواطئين كالملك السعيد بن عثمان بن العادل ملك الصبيبة وبانياس، وأمير حمص قريب الأيوبيين الملك موسى بن إبراهيم بن شيركوه.
3- دور المراسلات المملوكية وأهميتها؛ فقد أرسل قطز رسالة عتاب وتسفيه وتهديد لأمير حمص الأشرف موسى يوبّخه على ميله للمغول ضد المسلمين، ويخوفه عاقبة ذلك، ويغريه برد حمص والرحبة وتدمر إليه إذا ما انسحب عن المغول، وهو ما حدث بالفعل قبل المعركة بتمارضه، وفي أثناء المعركة بانسحاب قوات حمص (4). وكذلك فعل قطز مع الملك السعيد صاحب الصبيبة الذي أخذ الرسالة على محمل الاستهزاء فكانت عاقبته خُسرًا!
4- هناك رواية مهمة من شاهد عيان للمعركة وهو صارم الدين أزبك الأشرفي مملوك الملك الأشرف موسى صاحب حمص وقائد عساكرها في هذه المعركة (5)، تؤكد أن المخابرات والمراسلات بين المماليك بقيادة قطز وبينه قد أثمرت معرفة المماليك لأماكن الخلل والضعف لدى المغول، وكذلك مكامن القوة عندهم، وقد طلب صارم الدين وكان في الجيش المغولي وقتها من المظفر قطز أن يقوي ميسرة الجيش المملوكي ويدعّمه بالرجّالة والفرسان (6).
5- غلبة التسرع المغولي وغياب دور المخابرات والاستطلاع على التخطيط العسكري، فقد ذكر المؤرخ اليونيني (ت726هـ) أن بعض خونة المسلمين مثل زين الدين الحافظي وزير الأيوبيين في الشام وقاضي الشام محيي الدين حذّرا كتبغا نوين من مغبة مواجهة المماليك خاصة بعدما أخذ هولاكو شطرا كبيرا من الجيش المغولي معه إلى بلاد المغول عقب وفاة أخيه منكوقان خان المغول، الأمر الذي رفضه كتبغا، لا سيما بعد هزيمة الفرقة المغولية في غزة بقيادة النائب الثاني للمغول في الشام بيدرا، واندحارها أمام الفرقة الاستطلاعية المملوكية بقيادة بيرس (7).
6- أهمية الجهاز الاستطلاعي والمخابراتي المملوكي الذي حرص على تتبع أخبار الجيش المغولي حتى ليلة المعركة، ومعرفة كل ما يستجد لديه، وبث الأخبار عن قوة الجيش المملوكي واستعداداته الكبيرة، وهو ما نفهمه من رسالة الملك المظفر قطز لملك اليمن نور الدين الرسولي عقب نصر عين جالوت وجاء فيها: “هذا وعساكر المسلمين مستوطنة في مواطنها، جاذية (8) عقبانها في وكور ظباها. وما تزلزل لمؤمن قدم إلا وقدم إيمانه راسخة. ولم تزل أخبار المسلمين تنتقل إلى الكفّار، وأخبار الكفّار تنتقل إلى المسلمين إلى أن خلط الصّباح فضّته بذهب الأصيل” (9).
7- الروح المعنوية العالية للقيادة المملوكية متمثلة في قطز وأثرها الإيجابي على الجيش، فقد قُتل فرس قطز في هذه المعركة وأثناء هجوم المغول القوي، فلم يأبه قطز لذلك ونادى بأعلى صوته في المعركة “واإسلاماه”، بل ألقى خوذته وهاجم العدو في حماسة شحذت الهمم، رآها بعض أمراء المماليك في المعركة ضربًا من الشطط إن حدث للسلطان مكروه؛ فبهلاكه يهلك الجيش (10). على أن جل من أرّخوا لهذه المعركة قد كشفوا عن أهمية شجاعة السلطان قطز وأثرها على الروح المعنوية والهجومية للمماليك (11).
8- غلبة العنصر العددي والتسليحي والتنظيمي للجيش المملوكي مقارنة بجيش المغول، فقد قُسّم الجيش إلى أطلاب متتابعة، والأطلاب مجموعات عسكرية يُقدر عدد الجنود في كل طُلب فيها ب400 جندي بقيادة أمير من كبار الأمراء ممن له رنكه (12) الخاص به. قال صارم الدين الأشرفي شاهد العيان على تلك الموقعة، وهو يشاهد نزول الجيش المملوكي من أحد الجبال وكان في معسكر المغول: “لما كان ملتقى الجمعين على عين جالوت، طلعت الشمس علينا، وظللت عساكر الإسلام، وكان أول سنجق (13) سبق أحمر وأبيض، وكانوا لابسين العُدد المليحة، وأشرقت الشمس على تلك العدد” (14).
9- تطبيق القوات المملوكية لمبدأ المفاجأة سواء إستراتيجيًا بنقل أرض المعركة خارج الأراضي المصرية، أو تكتيكيًا بإخفاء القوات المملوكية الرئيسية في التلال والأحراش القريبة من عين جالوت، وهو ما يصرّح به صارم الدين الأشرفي بقوله: “طلبني كتبغا وقد بُهت هو والتتار الذين معه؛ لكثرة تلك العساكر وحُسن ما عليهم، وجمالهم وهم منحدرون من الجبل” (15).
10- الإصرار على حسم المعركة بقوة، فرغم تقهقر المغول صوب بَيْسان (16) أصر قطز على محاصرتهم والتلاحم معهم حتى فتك بهم، وأمر بيبرس بملاحقة الفلول والهاربين فتبعهم شمالاً حتى حمص فقتلهم، وأباد مددًا عسكريًا كان قادمًا من هولاكو قدّره بعض المؤرخين بألفي جندي (17).
وفي مقالنا القادم سنقف مع النتائج المهمة التي ترتّبت على هذه المعركة على المستوى الإقليمي والدولي آنذاك، لنرى كيف أنقذ المماليك الشرق الإسلامي من خطر كارثي حقيقي
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست