حين استولى السلطان الظاهر بيبرس على قيسارية وحيفا، فإنه قام بتدمير تحصينات واستحكامات المدينتين، وانتهج بيبرس وكل خلفائه من سلاطين المماليك هذا النهج ، وهو تدمير كل موانئ المدن الساحلية لبلاد الشام وتحصيناتها، فلم يكن يرغب في ترك موضع قدم لأية مغامرات صليبية مرة أخرى.
فقد كان سبب فشل صلاح الدين في تطهير كل بلاد الشام من الصليبيين يرجع إلى نزول قوات الحملة الصليبية الثالثة على شواطئ عكا، فأصبح ميناء عكا قاعدة للإمداد والتموين للحملة الصليبية، دعمت الحملة الصليبية بقيادة ريتشارد الأول زحفها باتجاه يافا وأرسوف بواسطة أسطول بحري.
ولم يكن المسلمون يتمتعون بأي تفوق بحري في البحر المتوسط منذ أوائل القرن الثاني عشر الميلادي، بسبب تفوق المدن الإيطالية في تقنية صناعة السفن عن المسلمين؛ لذلك عمل بيبرس على خلق أرض خراب على الساحل الشامي لا تسمح بوجود أي ميناء يمكن أن ترسو فيه قوات صليبية، وأن تتخذه كقاعدة للإمداد والتموين.
ويتضح مدى التزام سلاطين المماليك لاستراتيجية بيبرس ما يذكره المؤرخ “أبو الفداء” عن الأشرف خليل حين قام بفتح عكا وما تبقى من مدن بيد الصليبيين: “بعد تحطيم عكا، ألقى الله الرعب في قلوب الفرنجة الذين ما زالوا على سواحل بلاد الشام، لذلك فقد قاموا على عجل بإخلاء صيدا و بيروت وصور وباقي الحصون، وقام جيش السلطان بدخول هذه المعاقل وقام بتسويتها وتفكيكها على الفور”.
كانت تنتشر أسطورة إسلامية تقول: “إن ملوك قبرص سيقومون بالإبحار في ظلام الليل إلى أطلال عكا من أجل عملية تتويج سرية وإعادة الروح الصليبية واستعادة القدس مرة أخرى”.
وباتباع هذه الاستراتيجية فقد قام المماليك بتخريب موانئهم ومدنهم الساحلية وتخريب جزء من اقتصاد بلاد الشام لقرون، واتخذ الصراع المملوكي الغربي منحى آخر بعد سقوط آخر معاقل الصليبيين في الشام، حيث بقيت الخطط الصليبية لاسترداد بيت المقدس أو السيطرة على مصر التى كانت هدف الحملات الصليبية في القرن الثاني عشر حبرًا على ورق، لعدم استطاعة أية قوة في الغرب وحدها أو مجتمعة مواجهة الجيش المملوكي في معركة؛ فقد كانت دولة المماليك تمتلك أقوى جيش في العالم وقتها وبلا أدنى مبالغة كانت تمتلك أفضل جيش في العصور الوسطى؛ لذلك لجأ الغرب إلى حصار دولة المماليك اقتصاديًا من خلال حملات قرصنة في البحر المتوسط وحصار الموانئ المصرية، لكن الخلافات وتضارب المصالح بين المدن الإيطالية والبابا في روما وملوك أوروبا جعل هذا أمرًا صعبًا للغاية.
إن هذه الاستراتيجية في التعامل مع ضعف القوة البحرية للمماليك أظهرت كيف أن القوة الرئيسية في العالم الإسلامي تقوقعت على نفسها، ووقفت دولة المماليك عن التوسع والمغامرة في وقت كانت فيه الأمم الأوروبية تعتنق مبدأ المغامرة والتوسع بطريقة شاملة، فقد كانت سياستهم المبسطة في الدفاع عن طريق حرمان العدو من قطعة أرض يرسو عليها فكرة متصلبة أدت إلى الجمود نحو استراتيجية أكبر.
وتعود الميزة الهائلة التى حصل عليها الغرب الأوروبي من خلال الاستثمار المستمر في القوة البحرية والملاحة في البحار والمحيطات إلى استفراد أوروبا بالعالم الجديد وموارده الضخمة، وكذلك خنق العالم الإسلامي من خلال حصاره بحريًا، والتي أدت في النهاية إلى هيمنة الغرب، يرجع بداية هذا بالأساس إلى العصر الذهبى للمماليك.
فقد كانت هناك فجوة هائلة في القوة البحرية بين المماليك وأوربا، وكان يتعين على المماليك اجتيازها حين فرضت عليهم الحاجة الملحة ذلك، وهي وصول البرتغاليين إلى سواحل البحر الأحمر في القرن الخامس عشر.
ولعل من أهم أسباب انهيار دولة المماليك هو اكتشاف البرتغاليين طريق رأس الرجاء الصالح لأنه حوّل طريق التجارة العالمية إليه بدلاً من المرور بمصر، مما أدى إلى تدهور الحالة الاقتصادية لسلطنة المماليك.
لكن بالطبع لم يكن في مقدور سلاطين المماليك في القرن الثالث عشر التنبؤ بهذا الأمر، وكانت صناعة السياسة بالنسبة لهم – كما يحدث الآن- التفاعل مع الأحداث المنظورة والأحداث التي يتوقع حدوثها في المستقبل المنظور، كما أن وجود المغول العدو الرئيسى للمماليك كقوة برية ضخمة كان عاملاً مهمًا لتبلور هذه الاستراتيجية.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست