تشيع في أوساط التيّارات الإسلامية في العقود الأخيرة فكرة محدثة ترسّخت عند الشباب باعتبارها من “ثوابت الدين” التي لا جدال عليها، وهي أنّ للإسلام “راية” هي بمثابة “عَلَم” الدولة الإسلامية القادمة، وأنّ هذه الراية هي راية الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهي قطعة قماش سوداء أو بيضاء، وعليها كلمة “لا إله إلا الله محمد رسول الله”، ومن ثمّ فيجب على كل دولة إسلامية قامت أو ستقوم أن تتّخذ هذه الراية علَمًا لها، بل هو واجب على كلّ حركة أو جماعة أو تنظيم إسلامي يعمل للتمكين، بل على كلّ ثورة شعبية تقوم ضدّ نظام ظالم مجرم، وأي شكل آخر من الرايات أو الأعلام فهو مخالف لما كان عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو من ثمّ معصية شرعية في أحسن الأحوال، و”راية عمية شركية جاهلية” في أسوأ الأحوال!

هذا الذي ذكرناه في الفقرة الأولى هو بمثابة البدهيّات التي لا جدال عليها عند كثير من الشباب الإسلامي، وفي هذا المقال نريد أن نبيّن أنّه من الأحكام الباطلة الدخيلة على دين الله، التي لا أساس لها من الصحّة، وأنّها مبنية على فهم خاطئ لمفهوم “الراية” في الإسلام، بل إنّها متأثرة بمفاهيم جديدة تعود إلى العصر الحديث والدولة الحديثة، ولم يكن لها وجود في عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعهد خلفائه الراشدين.

 

هل كان للرسول صلّى الله عليه وسلّم راية؟

في الواقع جاء في عديد من الروايات أنّه كان للرسول صلّى الله عليه وسلّم راية ولواء، كان يعقدها في الحروب والغزوات، وقد أظهرت الروايات – على ضعف بعضها- اختلاف ألوانها بين الأسود والأبيض – وهي غالب الروايات وأصحّها – والأصفر والأحمر في روايات قليلة معظمها ضعيف. ولنستعرض بعض هذه الروايات:

في الصحيح “أنَّ رايةَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ كانَت سَوداءَ ولواؤُهُ أبيضُ” (رواه ابن ماجة وغيره).

وعن جابر: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح ولواؤه أبيض. رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.

وعن البراء بن عازب وقد سئل عن راية رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانت؟ فقال: “كانت سوداء مربعة من نمرة”. رواه أبو داود والترمذي.

وعن معنى الراية واللواء ننقل ما أورده الحافظ ابن حجر في “فتح الباري” حيث قال: “قال أبو بكر بن العربي: اللواء غير الراية فاللواء ما يعقد في طرف الرمح ويلوى عليه، والراية ما يعقد فيه ويترك حتى تصفقه الرياح، وقيل: اللواء دون الراية، وقيل: اللواء العلم الضخم والعلم علامة لمحل الأمير يدور معه حيث دار، والراية يتولاها صاحب الحرب” اهـ.

وهناك أحاديث لم تثبت أو اختُلف في الحكم عليها تشير إلى ألوان أخرى، فقد روى أبو داود عن رجل من قوم سماك أنّه قال: “رأيت راية رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم صفراء” (سنن أبي داود).

وروى ابن أبي عاصم في “كتاب الجهاد” عن كُرْزِ بْنِ سَامَةَ قال: “وإنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَدَ رَايَةَ بَنِي سُلَيْمٍ حَمْرَاءَ”.

وروى ابن أبي عاصم أَيْضًا من حَدِيث مزيدة، يَقُول: “كنت جَالِسا عِنْد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فعقد راية الْأَنْصَار وَجعلهَا صفراء”.

وكذلك ما ذكُر من كتابة “لا إله إلا الله محمد رسول الله” على الراية فهو في عداد الضعيف كما قال العلماء ولم يثبت منه شيء، فقد روى الطبراني في الأوسط من طريق حيان بن عبيد الله، عن أبي مجلز، عن ابن عباس، قال: “كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء، ولواؤه أبيض، مكتوب فيه: لا إله إلا الله محمد رسول الله”. قال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن ابن عباس إلا بهذا الإسناد، تفرد به: حيان بن عبيد الله اهـ. وقد رواه ابن عدي في “الكامل في الضعفاء” في ترجمة حيان هذا، وقال: “وَلِحَيَّانَ غَيْرُ مَا ذَكَرْتُ مِنَ الْحَدِيثِ وَلَيْسَ بِالْكَثِيرِ وَعَامَّةُ مَا يرويه إفرادات ينفرد بها”. اهـ. وأعله الهيثمي في “مجمع الزوائد” بحيان. والحديث ضعفه الشوكاني في “نيل الأوطار”. وقال ابن حجر في “فتح الباري”: سنده واه .

الراية واللواء من وسائل الحرب، وليست عَلَمًا للدولة أو التنظيم، ولم يوجبها أحد من العلماء

42
بعد أن استعرضنا الروايات التي تثبت أنّه قد كان للنبيّ عليه الصلاة والسلام راية ولواء، نتساءل: هل كانت هذه الرايات والألوية “أعلامًا” تُستخدم شعارًا للدولة أو للجماعة والحزب والتنظيم كما هو الحال في عصرنا الحالي؟

من خلال نظرة إلى سياق الروايات التي وردت أعلاه، وإلى كلام العلماء فيها، يتّضح لكل ذي لبّ أنّ الحديث عن وسيلة من وسائل الحروب في ذلك العهد، وأنّ الراية أو اللواء ليست شعارًا يرمز إلى دولة أو منظّمة، بل هي أداة حيوية ومهمّة في سير المعارك في ذلك الوقت.

فقد روى الهيثمي في “مجمع الزوائد” عن عبد الله بن عباس: “أنَّ رايةَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانت تكون مع عليِّ بنِ أبي طالبٍ، ورايةَ الأنصارِ مع سعدِ بنِ عبادةَ، وكان إذا استَحَرَّ القتالُ كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مما يكون تحتَ رايةِ الأنصارِ”.

ويقول الحافظ ابن حجر في “فتح الباري”: “الراية بمعنى اللواء، وهو العلم الذي في الحرب يُعرف به موضع صاحب الجيش، وقد يحمله أمير الجيش، وقد يدفعه لمقدم العسكر” اهـ.

ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله في “زاد المعاد” في ذكر فوائد وفد صداء: “فيها استحباب عقد الألوية والرايات للجيش، واستحباب كون اللواء أبيض، وجواز كون الراية سوداء من غير كراهة”. اهـ.
وقال الماوردي رحمه الله في كتابه الحاوي في فقه الشافعية (8/1168): “وأما الشعار، فهي العلامة التي يتميز بها كل قوم من غيرهم في مسيرهم وفي حروبهم، حتى لا يختلطوا بغيرهم ولا يختلط بهم غيرهم، فيكون ذلك أبلغ في تضافرهم لما روي أن النبي – صلى الله عليه وسلم – جعل للمهاجرين شعارًا، وللأنصار شعارًا. ويتخذون علامة من ثلاثة أوجه:

أحدها: الراية التي يتبعونها ويسيرون إلى الحروب تحتها فتكون راية كل قوم مخالفة لراية غيرهم.
والثاني: ما يعلمون به في حروبهم، فيعلم كل قوم بخرقة ذات لون من أسود، أو أحمر، أو أصفر، أو أخضر، تكون إما عصابة على رؤوسهم، وإما مشدودة في أوساطهم.

والثالث: النداء الذي يتعارفون به فيقول كل فريق منهم يا آل كذا، أو يا آل فلان، أو كلمة إذا تلاقوا تعارفوا بها ليجتمعوا إذا افترقوا ويتناصروا إذا أرهبوا، فهذا كله وإن كان سياسةً ولم يكن فقهًا فهو من أبلغ الأمور في مصالح الجيش وأحفظها للسِيَر الشرعية” اهـ.

وقال الإمام الشافعي رحمه الله في بيان دقيق ومهمّ عن المقصد من وراء الشعارات والألوية المتعدّدة للقبائل في كتابه “الأم”: “وجعل النبي صلى الله عليه وسلم للمهاجرين شعارًا وللأوس شعارًا وللخزرج شعارًا، وعقد النبي صلى الله عليه وسلم الألوية عام الفتح؛ فعقد للقبائل قبيلة قبيلة حتى جعل في القبيلة ألوية كلّ لواء لأهله، وكلّ هذا ليتعارف الناس في الحرب وغيرها، وتخفّ المؤنة عليهم باجتماعهم وعلى الوالي كذلك؛ لأنّ في تفريقهم إذا أريد والأمر مؤنة عليهم وعلى واليهم، وهكذا أحبّ للوالي أن يضع ديوانه على القبائل ويستظهر على من غاب عنه ومن جهل ممن يحضره من أهل الفضل من قبائلهم”. اهـ.

أقول: دلّت أقوال العلماء هذه وتناولهم لتلك الروايات على أمور أهمّها:

1) أنّ الراية وسيلة حربيّة تُستخدم في الحروب والمعارك، وتتّسق مع طبيعة الحروب القديمة التي كانت يجتمع فيها عدد كبير من البشر للمواجهة المباشرة، وكانت تهدف بشكل أساسي إلى تنظيم سير القتال وتسهيل التواصل لعدم وجود الوسائل الحديثة للحروب آنذاك.

2) من هذا المنطلق (أي كونها وسيلة حربية) ينبغي فيها التعدّد والتميّز؛ إذ غايتها الدلالة على موقع القائد وعدم الاختلاط، وكان لكلّ قبيلة راية؛ ففي السيرة النبوية لابن هشام عمّا حدث بين العباس وأبي سفيان عند فتح مكّة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عباس، احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل، حتى تمر به جنود الله فيراها. قال: فخرجت حتى حبسته بمضيق الوادي، حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحبسه. قال: ومرّت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة قال: يا عباس، من هذه؟

فأقول: سليم، فيقول: مالي ولسليم، ثم تمر القبيلة فيقول: يا عباس، من هؤلاء؟ فأقول: مزينة، فيقول: مالي ولمزينة، حتى نفدت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا يسألني عنها، فإذا أخبرته بهم، قال: مالي ولبني فلان، حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء. قال ابن هشام: وإنما قيل لها الخضراء لكثرة الحديد وظهوره فيها” اهـ.

فتعدّد الرايات مطلوب لتحقيق المصلحة منها في المعارك، وهو ما صرّح به الماوردي حين قال: “فتكون راية كل قوم مخالفة لراية غيرهم”. وقال صاحب كشاف القناع: “ويَعْقدُ لهم الرّايات وهي أعلامٌ مُربّعةٌ ويُغايرُ ألوانها”.

3) أنّ العلماء لم يوجبوا حمل هذه الرايات والألوية، ولم يوجبوا أن يكون لونها أسود أو أبيض، فضلاً عن أن تُكتب عليها كلمة التوحيد أو أي شعار آخر، وهو واضح من كلام العلماء الذي نقلناه أعلاه وكلام غيرهم في مواضع عديدة لا يسعنا إيرادها جميعًا، فضلاً عن أن يوجبوا جعل هذه الرايات “أعلامًا” للدول والهيئات والمنظّمات، يجب رفعها في المظاهرات وعلى المؤسّسات والمقرّات، فهذا من الخبل الذي لم يقل به أحد من علماء الأمة خلال أربعة عشر قرنًا!

ويؤّكد الإمام السرخسي رحمه الله في إشارة لطيفة وبيان مهمّ أنّ تلك الرايات والألوية هي وسائل حربية وليست واجبة شرعًا، وأنّها وُضعت لتخدم سير القتال، يقول في “شرح السير الكبير”:

“وإنّما اُستُحِبَّ في الراياتِ السوادُ لِأنَّهُ عَلَمٌ لأَصحابِ القتال، وكلُّ قومٍ يُقَاتلون عندَ رايتهمْ، وإذا تفرَّقوا في حالِ القتال يتمكَّنُون مِنْ الرُّجوع إلى رايَتهمْ، والسَّوادُ في ضوْء النَّهار أَبْيَنُ وأَشْهَرُ مِنْ غَيْرِهِ خُصُوصًا في الْغُبَارِ. فلهذا اُسْتُحِبَّ ذلك. فأَمَّا مِنْ حَيثُ الشَّرعُ فلا بأْس بِأَنْ تُجْعَلَ الراياتُ بِيضًا أَو صفرًا أَو حُمْرًا، وإِنَّما يُخْتَارُ الْأبيَضُ في اللِّوَاءِ لقوله صلى الله عليه وسلم: “إنَّ أَحبَّ الثِّيابِ عِنْدَ اللَّه تعالى الْبِيضُ، فَلْيَلْبَسْهَا أَحْياؤُكُمْ وَكَفِّنُوا فيها موْتاكُمْ”. واللِّواءُ لا يكونُ إلَّا واحدًا في كُلِّ جيْشٍ، ورُجوعُهُمْ إليهِ عنْدَ حاجَتهمْ إلى رَفْعِ أُمورهِمْ إلى السُّلْطَانِ. فَيُخْتَارُ الأَبيَضُ لذلكَ ليَكُونَ مُمَيَّزًا مِنْ الرَّاياتِ السُّودِ الَّتي هيَ للْقُوَّادِ” اهـ.

ها قد ظهر لنا إذن أنّ الرايات والألوية المذكورة في الروايات هي من وسائل القتال والحرب، وليست أحكامًا شرعية، ولا أعلامًا لدولة أو لجماعة كما هو الاستخدام المعاصر حيث يكون لكل دولة علَم يميّزها وكذلك للكثير من الجماعات السياسية والمنظّمات، ولم يوجبها أحد من العلماء في القديم. فيتّضح بذلك أن ما يُقال عن “وجوب حمل راية الرسول” صلّى الله عليه وسلّم هو من البدع المحدثة التي لا أصل لها، وأنّ القول بحرمة رفع أية راية أخرى أو لون آخر غير الأسود والأبيض استدلالاً بتلك الروايات هو من الضعف العلمي والسطحية في التعاطي مع الروايات.

تحريفهم لمفهوم الراية وتأثّرهم بالأعلام الوطنية الحديثة

511_o

يتّضح لنا من خلال ما سُقناه أعلاه من نصوص وحقائق حول مفهوم الراية في التاريخ الإسلامي، وكونها أداة عسكرية لتيسير أمر الحروب والمعارك، وأنّه لا بأس بالتعدّد فيها بل هو مطلوب للتعارف والتمايز، يتّضح من ذلك كلّه أنّها شيء آخر غير ما يُراد لها أن تكون اليوم من قبل بعض التيّارات الإسلامية المعاصرة، أي جعلها عَلَمًا للدولة أو للشعب أو للأمة؛ فهذه الفكرة جديدة على القرون الإسلامية الأولى، وهناك فرق بينها وبين مفهوم الراية كما أوضحناه.

والواقع أنّ هؤلاء الذين يزايدون على غيرهم بقضية “راية الرسول” متأثّرون بشكل أساسي بفكرة “العَلَم الوطني” الذي نشأ في العصر الحديث، والذي يُضفي الطابع الرمزي على العَلَم ويجعله شعارًا لأمة أو لدولة، ومعبّرًا عن هويّتها ووحدتها، فيُرفع على السواري وفي المقرّات، ويضعه الناطقون الرسميّون خلفهم في المقابلات، والقياداتُ أمامَهم على المكاتب، ويخرج به الناس في المظاهرات كمعبّر عن انتمائهم ووحدتهم، فهذه فكرة حديثة تنتمي إلى العصر الحديث، ولا علاقة لها بالإسلام من قريب أو بعيد، وهي من المباحات ما لم تخالف حرامًا وما لم تُقدَّس فتصبح أصنامًا جديدة أو يتم التعصّب لها، ولكنّ إدخالها في الدين وجعلها واجبًا شرعيًّا هو في الواقع ابتداع مُحدَث وسفهٌ يتنزّه عنه العقلاء!

وفي الوقت الذي كانت فيه الرايات القديمة وسائل حربيّة والأصل فيها التعدّد والتميّز لتقوم بوظيفتها كما مرّ معنا، انتحل هؤلاء مفهوم الأعلام الحديثة، وجعلوا من الراية “عَلَمًا” يُستخدم كما تُستخدم الأعلام اليوم، وجعلوا الأصل فيها التوحّد وعدم وجود أعلام أخرى داخل الأمة الواحدة كما هو حال أعلام الدول الحديثة التي لا ينبغي أن ينازعها عَلَم آخر. فتأمل كيف نقلوا فكرة الراية عن طبيعتها والغاية من ورائها، وقاموا بزجّها في سياق معاصر ليس من جنسها.

    الراية الشركية قصدٌ وولاء وليست خرقة ملوّنة

هناك انحراف خطير آخر يقع فيه هؤلاء، وذلك حين يُسقطون معنى “الراية” هذا على معنى آخر مرتبط بالمقصد والولاء، وهو الذي جاءت فيه بعض الأحاديث محذّرة من الراية “العميّة” و”الجاهلية”:

روى مسلم في صحيحه عن جندب بن عبد الله أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: “من قُتِلَ تحتَ رايةٍ عميّةٍ، يدعو عصبيّةً، أو ينصُر عصبيّةً، فقتلةٌ جاهلية”.

ولمسلم في صحيحه أيضًا عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: “من خرجَ من الطاعةِ، وفارقَ الجماعةَ، ثم ماتَ، ماتَ ميْتةً جاهليةً. ومن قُتِلَ تحتَ رايةٍ عميةٍ، يغضبُ للعصبةِ، ويُقاتِل للعصبةِ، فليسَ من أمّتي. ومن خرجَ من أمّتي على أمّتي، يضربُ برّها وفاجرها، لا يتحاش من مؤْمنها، ولا يفي بذي عهدها، فليسَ مني”.

وقد أخذ هؤلاء هذا الحديث وتناولوه بسطحية بالغة، فقالوا: “هذه الأعلام المختلفة التي يحملها الناس اليوم، سوى الراية الإسلامية، هي رايات عميّة جاهليّة شركية، من قاتل تحتها فقتلته جاهلية”.

والتحريف الذي وقعوا فيه أنّهم جعلوا لون قطعة القماش دليلاً على جاهلية الراية، رغم أنّ سياق الأحاديث المذكورة يوضّح بشكل جليّ أن “الراية العمية” أو “الجاهلية” يتحدّد وصفها بالقصد وليس بالشكل، فالروايات توضّح أنّ المقصود هو الغاية من وراء هذه “الراية” أو “الدعوة”: “يدعو عصبيّةً، أو ينصُر عصبيّةً”، وفي الرواية الأخرى:

“يغضبُ للعصبةِ، ويُقاتِل للعصبةِ “، وهناك روايات أخرى توضّح هذا المعنى بجلاء؛ فقد روى البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله أنّه قال: “كنا في غَزاةٍ، فكسَع رجلٌ من المهاجرينَ رجلًا من الأنصارِ، فقال الأنصارِيُّ: يا لَلأنصارِ، وقال المهاجرِيُّ: يا للمهاجرينَ، فسمعَها اللهُ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: “ما هذا”. فقالوا: كسَع رجلٌ من المهاجرينَ رجلًا من الأنصارِ، فقال الأنصارِيُّ: يا لَلأنصارِ، وقال المهاجرِيُّ: يا لَلمهاجرينَ، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: “دَعوها فإنها مُنْتِنَةٌ”. والمقصود هنا هو التعصّب للعرق والقومية على حساب أخوة الإسلام الجامعة، وهذه دعوة جاهلية مرفوضة في الإسلام، وهي المقصود من الراية العميّة. ولكن في المقابل، عندما كان للمهاجرين راية، وللأنصار راية مختلفة، ولسائر القبائل رايات أخرى في المعارك (كما نقلنا في بداية المقال)؛ لم يكن هذا التعدّد والاختلاف في شكل الرايات أو لونها مدعاة للقول بأنّ فريقًا ما يقاتل تحت راية جاهلية، طالما أنّ الغاية نبيلة، وطالما أنّ جميع القبائل تجتمع تحت سقف واحد هو أخوة الإسلام.

والحقّ أنّ الراية المشروعة تتحدّد بحسب المقصد من ورائها، لا بلونها وشكلها، إذ ليس هناك شكل شرعي محدّد للراية لا تجوز مخالفته كما أوضحنا في السابق، فلو كان الرجل يقاتل للدفاع عن دينه، أو للدفاع عن حقوق الأمة ودمائها وأعراضها، أو دفاعًا عن المستضعفين أو لأية غاية نبيلة أخرى؛ فهو تحت راية شرعية، حتى لو كان شعاره علمًا أخضر أو أزرق أو أحمر، فقد قال عليه الصلاة والسلام: “من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتل دون أهله فهو شهيد” (رواه الترمذي). وإنْ كان يقاتل تحت ولاءٍ جاهلي شركيّ ورايةٍ شركية تعادي أهل الإيمان فهذا هو الشرك، كما قال الشاعر أبو سفيان بن الحارث قبل إسلامه:

لعمرك إنّي يوم أحمل رايةً  …  لتغلبَ خيلُ اللاتِ خيلَ محمّدِ!

ومناط الشرك كما في البيت هو معاداة الرسول عليه الصلاة والسلام وجماعة المسلمين والسعي لقتالهم وتغليب الكفر عليهم؛ لأنّ الراية عبارة عن “قصد” و”ولاء”، وليست لونًا أو شكلا، وجاهليّتها أو إسلاميّتها أمرٌ متعلّق بالغاية من وراء التجمّع خلفها. ولو كانت راية الشاعر حينذاك سوداء مع كلمة التوحيد، وكان مواظبا على هذه الحالة التي يصفها في شعره؛ كانت رايته شركية جاهليّة ولم يشفع له لونها. ولو كانت رايته حمراء وتاب عن هذه الحالة ووالى المسلمين وقصد إلى الدفاع عنهم؛ فقد أصبح تحت راية إسلامية شرعية، بغضّ النظر عن لون الراية التي يحملها.

يتّضح لنا إذن مدى السطحية التي انقاد إليها هؤلاء بأحكامهم الجائرة على الرايات من خلال ألوانها أو تاريخها الحديث، فجعلوا الألوان والأشكال مدار الحكم، ولم ينظروا إلى المناط والقصد والغاية من وراء كل تجمّع. ونظرتهم السطحية هذه تجعل كثيرًا من المسلمين يُخدعون بمن رفع راية سوداء وكتب عليها كلمة التوحيد، ثم هو مع ذلك يستبيح دماء المسلمين ويعمل للقضاء على أية ثورة للأمة تسعى للتخلّص من الاستبداد والطغيان. فيمارس هؤلاء الطغيان والعصبية والجاهلية بكل ما تعنيه تلك الأوصاف، ومع ذلك تبقى رايتهم في حسّ بعض الناس “إسلامية” و”شرعية” لمجرّد أنّها تحمل اللون الأسود ومكتوبٌ عليها “لا إله إلا الله”! وقد جاء في حديث الراية العميّة الذي أوردناه عن أبي هريرة: “ومن خرجَ من أمّتي على أمّتي، يضربُ برّها وفاجرها، لا يتحاش من مؤْمنها، ولا يفي بذي عهدها، فليسَ مني”. فتأمّل!

    الرايات التي يرفعونها هي رايات حزبيّة

ونحن في الواقع لو نظرنا إلى تلك الرايات “المعاصرة” التي ينادي برفعها هؤلاء، سنجد أنّها متعدّدة ومختلفة، وأنّها في الواقع رايات “حزبيّة”، اختارتها بعض الجماعات والتنظيمات الإسلامية المعاصرة، دون أن تكون هي ما ورد في صحيح السنة والسيرة عن راية النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. فلم يكتفوا في الواقع بتحريف طبيعتها كأداة حربية وجعلها رمزًا وشعارًا للتنظيم والدولة المنشودة، بل زادوا عليها ما لم يثبت في النصوص: فبعض الجماعات تضع عبارة “لا إله إلا الله محمد رسول الله” بخطّ الثلث على الراية السوداء، وهو ما لم يصحّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبعضها يضع ختمًا مستديرا بعبارة “محمد رسول الله” وفوقه عبارة “لا إله إلا الله”، وهو مما لم يرد عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إطلاقًا، ولا حتى في رواية ضعيفة أو باطلة، وبعضها يضيف اسم تنظيمه على الراية، والخلاصة أنّها جميعًا – دون استثناء – رايات حزبيّة، صمّمها أعضاء تلك الجماعات والتنظيمات المعاصرة، وليست شيئا مأثورًا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فضلاً عن استخدامها في غير الحروب بشكل أساسي، ومحاولة فرضها كأعلام حديثة للأمة الإسلامية وشعارات في المظاهرات يحرُم – في نظرهم – مخالفتها، فأيّة حزبية هذه وأيّ جهل هذا!

هوَس مدمّر

بينما يموج العالم العربي بالثورات والنزاعات المسلّحة وأعمال الإبادة الجماعية ونضال الشعوب للتخلّص من طغاة مجرمين هوايتهم القتل ورؤية الدماء المسفوكة والأشلاء المتناثرة، ينظر كثير من الشباب إلى قضية الراية، بالمفهوم المحرّف لها، باعتبارها قضية مصيرية يجب الكفاح من أجلها. والقضية هنا ليست فقط أنّ هذا الكفاح هو كفاح من أجل فكرة وهمية ليست من دين الله كما أوضحنا، بل في أنّه يتخلّل إحداث الفتن في عالم مليء بالمشاكل والأزمات والفتن ابتداءً، فكانت هذه الدعوات ضِغثًا على إبّالة، ونكسة جديدة يُبتلى بها العقل المسلم المعاصر.

لقد رأينا جموعًا من الشباب تخرج في مظاهرة لتؤكّد على أنّ قطعة القماش التي يريدونها شعارًا لهم هي تلك التي صمّمتها الجماعة الفلانية، ظنّا أنّها ما أراده الله لنا، ورأينا أعضاء تنظيم ما ينكّسون أعلامًا ويحرقون أخرى، ليرفعوا عَلَم تنظيمهم، بل ورأينا أعضاء إحدى الجماعات ينزلون راية جماعة أخرى ليرفعوا رايتهم مكانها، وكلتا الرايتين باللّون الأسود ومكتوب عليهما شهادة التوحيد!

لقد تجاوز هذا الهوَس بلون الراية التفكير الحكيم الذي عرفه المسلمون، وانتقل إلى جدل شعاراتيّ لا يليق حتى بالأطفال! ففي الوقت الذي كانت فيه الراية في العصور الإسلامية الأولى أداة حرب يستخدمها مختلف الشعوب، ويعطيها المسلمون من الجدّية على قدر خطورتها في سير المعارك، أصبحت اليوم – بعد زوال أهميتها الكبيرة في الحروب الحديثة – أداة في معركة الشعارات التي يخوضها الشباب المتحمّس ضدّ نفسه، فليس ثمّة داع ملحّ يدعو هؤلاء إلى هذا الاهتمام المبالغ به بلون الراية، التي أصبح تعدّد ألوانها وكأنّه المشكلة الأخيرة التي بقيت أمام الأمة لتحقّق النصر والتمكين!

لقد كان الجيل الأول من هذه الأمة جادًّا في تعامله مع القضايا العامّة للمجتمع، ولم نعهد في العهد النبوي أو الراشد أو حتى في ما تلاه من عهود هذه السطحية في التركيز على قضية ليست ذات أثر، بل رغم أهمية دور الراية في تلك العصور كما أوضحنا، لم يعتبرها المسلمون من الدين أصلًا، ولم يصل لنا جدل كهذا حولها حتى في أشدّ العصور تخلّفًا وانحطاطـًا، عندما كانت أعلام دول المسلمين وشعاراتهم مختلفة الألوان كعلَم الدولة العثمانية على سبيل المثال، فما الذي حلّ بالعقل المسلم المعاصر ليجعله في غاية السطحية والسفه؟!

ولو أخذنا الثورة السورية على سبيل المثال، حقّ لنا أن نتساءل: ما الفائدة من إثارة الفتن بالهجوم على مظاهرات ترفع علم الاستقلال عن فرنسا من قبل بعض الغلاة (وهو ليس العلم الفرنسي ولم يضعه الفرنسيّون كما يروّج الذين يضمنون أنّ أتباعهم لن يقرأوا وراءهم، بل رفعه أهل سوريا في مظاهراتهم ضدّ المحتلّ الأجنبي فكان شعارًا للاستقلال، وأعلام الانتداب مختلفة وهي معروفة على أية حال) أقول ما الفائدة من هذا العدوان وتمزيق الأعلام بدعوى أنها راية جاهلية؟ هل تحرّرت سوريا من طغيان النظام وداعش ولم يبقَ إلا اختيار لون العلَم؟!

وهل هناك تعارض بين أن ترفع الفصائل الراية المنسوبة إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في قتالها وثورتها، في نفس الوقت الذي تجتمع فيه على علَم نال تأييدًا واسعًا وكان رمزًا للثورة بل ويثير حنق الطاغية لأنّه يعبّر عن رفض شرعيّته؟

وهل هذا ما يقدّمونه للثورة السورية كأجر على فتحها لطريق الكفاح والجهاد ضدّ الطاغية، وإفساحها للحرّية في المناطق التي حُرّرتْ من ربقة النظام المجرم، فيكون نصيبها القمع والمصادرة على حرّية التعبير – التي هي حقّ من عند الله – باستخدام القوة؟!

وقد رأينا من يستفتي الناس ويسألهم: هل تفضّلون رفع راية الرسول صلى الله عليه وسلم أم راية الاستقلال السورية؟

وهو يستغلّ محبّة الناس لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولدينه القويم، فهل يجرؤ أحد على القول بأنّه يفضّل شيئًا على أمر يخصّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟! والحقّ أنّ المقارنة تتضمّن حيادًا عن الموضوعية؛ فعلَم الاستقلال ليس راية حربية حتى يقارن بشيء ليس من جنسه؛ فهذا علَمُ دولة، وتلك راية قتال، ولا تعارض بينهما أساسًا كما أوضحنا.

والخلاصة أنّ الانشغال بلون الراية والقول بضرورة رفع اللون الأسود أو الأبيض ومنازعة من يرفع راية غيرها وإثارة الناس على هذه التوافه هو ممّا يخدش مروءة الرجال؛ لأنّ الرجال الحقيقيّين مشغولون بمعالي الأمور: بالانتصار على النظام المجرم لإيقاف نزيف الدماء، وبحماية الناس من بطشه وبراميله المتفجّرة، وبتأمين المستلزمات الإغاثية والطبّية والتعليمية والتربوية للسكان المنكوبين، وبالجملة بالمسائل الجادّة ذات التأثير والنفع على الأمة، لا بالقضايا التي ليس من ورائها نفع، بل قد تؤدّي إلى إشعال الفتن وإلهاب عواطف الناس حول أمور لم تُطلب منهم شرعًا ولم يضطرّهم إليها طلبُ مصلحة أو دفعُ مضرّة.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد