يواصل المراغي حديث مذكراته فيقول:
الوزير يطلب الجيش!
في الساعة الثانية عشر والنصف، اتصل وزير الداخلية بقائد القوات المسلحة الفريق محمد حيدر، طالبًا إليه نزول القوات المسلحة للسيطرة على الموقف بعد أن تبين للوزير أن قواته من البوليس غير قادرة على السيطرة على الموقف، بل إن معظمها مشارك في المظاهرات.
وكان رد قائد الجيش على وزير الداخلية أنه لا بد من عرض الأمر على الملك وحصوله من جلالته على أمر بذلك.
وبعد نصف ساعة في حوالى الواحدة – عاود وزير الداخلية الاتصال بقائد الجيش ليبلغه عدوله عن طلب نزول الجيش لأنه اطمأن إلى أن قوات البوليس تسيطر على الموقف.
ولما لم يجد وزير الداخلية قائد الجيش في مكتبه فإنه، اتصل برئيس الديوان الملكي حافظ باشا عفيفي وأبلغه رأيه بالاستغناء عن نزول الجيش.
ولكن بعد نحو ربع ساعة فقط – في حوالى الواحدة والربع ظهرًا- عاد وزير الداخلية يطلب نزول الجيش لأن المتظاهرين أشعلوا النار في سينما ريفولي وسينما مترو بينما رجال البوليس لا يقاومون الذين يشعلون النيران!
وبحث وزير الداخلية طويلًا عن الفريق حيدر حتى وجده.
وكان الفريق حيدر في ذلك الوقت جالسًا إلى جانب الملك فاروق في المأدبة الحافلة التي أقامها الملك في ذلك اليوم بدون مناسبة ودعا إليها قائد الجيش وكبار المسئولين عن أمن القاهرة، وهم الذين كان مفروضًا أن يكونوا في هذا اليوم في مواقع عملهم لإنقاذ القاهرة ومصر كلها من الكارثة التي تعرضت لها.
لكنهم جميعًا «بربطة المعلم» كانوا جالسين على مأدبة فاروق، والقاهرة تحترق! ولعله مشهد تكرر فيما بعد في ظروف أخرى مختلفة في يوم الاثنين 5 يونيو (حزيران) 1967 عندما استقل المشير عبد الحكيم عامر طائرته العسكرية في صباح ذلك اليوم ومعه كبار قادة الجيش متوجهًا من القاهرة إلى سيناء.
وبسبب وجود طائرة المشير في الجو صدرت الأوامر إلى بطاريات الصواريخ بالامتناع عن إطلاق النار خوفًا على حياة المشير، في الوقت الذي كانت فيه الطائرات الإسرائيلية تهاجم المطارات المصرية وتجهض في خلال دقائق معدودة قوة الطيران المصرية وتدفع مصر إلى كارثة الهزيمة!
وفى يوم 25 يناير (كانون الثاني) 1952 – وكان يوم جمعة – وجه الملك فاروق دعوة عاجلة إلى قائد الجيش وكبار ضباطه، وجميع ضباط حامية القاهرة، وكبار ضباط البوليس في العاصمة لحضور مأدبة غذاء في قصر عابدين حددت لها الساعة الواحدة والربع بعد ظهر يوم السبت 26 يناير!
وكان غريبًا أن وزير الحربية في ذلك اليوم مصطفى نصرت ووزير الداخلية فؤاد سراج الدين لم توجه إليهما الدعوة لحضور هذه الوليمة التي أقيمت لضباط الجيش والبوليس وهي وليمة غريبة لا يحضرها الوزيران المسئولان عن المحتفى بهم! ولم يكن ذلك أغرب ما في هذه الوليمة التي لم تكن عادة فاروق أن يقيم مثلها.
وكانت هناك سلسلة من الغرائب التي تبلغ حد الألغاز أحاطت بها إلى درجة لا يمكن فصلها عن سيناريو الأحداث التي جرت في هذا اليوم بل لا أبالغ إذا قلت أنها كانت تبدو أنها جزء من هذا السيناريو.
ويستوقف النظر أولًا أن هذه الوليمة الملكية تم تحديد موعدها بعد 24 ساعة أو أقل من إرسال الدعوة إليها.
ويستوقف النظر ثانيًا أن الدعوة لهذه الوليمة لم تكن عن طريق بطاقات مكتوبة أرسلت باليد أو البريد، بل أبلغت تلفونيًّا إلى قائد الجيش الذي أبلغها بدوره إلى قواد الوحدات الذين أبلغوها إلى الضباط.
والسؤال الأول: هل كان الشكل الذي اتخذته الدعوة إلى هذه الوليمة طبيعيًّا خصوصًا أن الداعي هو ملك البلاد وأن عدد المدعوين كان كبيرًا جدًا؟
والسؤال الثاني: هل كانت مصادفة بحتة أن يدعى جميع ضباط القاهرة إلى وليمة تحترق القاهرة في اليوم المحدد لها؟
ربما كان من الممكن القول أن ذلك جرى مصادفة لو أن الدعوة وجهت لها قبلها بعشرة أيام أو أسبوع على الأقل، أو أن يكون يوم 26 يناير هو مناسبة من المناسبات التي تقام لها هذه الوليمة كأن يصادف عيد جلوس الملك أو عيد ميلاد ولي العهد، لكن الحادث فعلا أن يوم 26 يناير لم يكن يوافق أية مناسبة من المناسبات.
ويستوقف النظر غير ذلك أن هذه الوليمة اقتصرت الدعوة إليها على ضباط حامية القاهرة أما كبار ضباط حامية الإسكندرية أو القناة فلم توجه لهم الدعوة لحضورها!
ثم أليس من الغريب أن تشمل الدعوة إلى جانب كبار ضباط القاهرة. أيضًا صغار ضباط حامية القاهرة، وهو ما لم تجر عليه العادة في القصر الملكي؟
لماذا؟ وما سر هذه الوليمة الغريبة في الظروف الغريبة التي تمت فيها؟
رسالة على الغذاء
في الساعة الواحدة والربع دخل جلالة الملك فاروق قاعة المأدبة المقامة بقصر عابدين وكان مرتديًا ملابس المشير ويبدو عابس الوجه.
وفور دخوله هب الضباط الذين أخذوا أماكنهم إلى المائدة الكبيرة واقفين وأدوا التحية العسكرية له فرد لهم التحية كأنه عسكري متمرس.
وتوسط فاروق المائدة وإلى جانبيه الفريق حيدر باشا القائد العام للجيش. والفريق عثمان المهدي رئيس الأركان.
وما كان الخدم يقدمون أطباق الطعام حتى دخل القاعة أحد موظفي القصر حاملًا ورقة مطوية اتجه بها إلى الفريق حيدر الذي فتحها وقرأها ثم مال نحو الملك يقول له إنها رسالة من وزير الداخلية يطلب نزول الجيش.
وبدون تفكير أجاب الملك أجلها إلى ما بعد الغذاء.
وانتهت الوليمة الغريبة التي أقيمت بلا أية مناسبة، وفى أغرب ظروف يمكن أن تواجهها مصر. كانت الساعة الثانية والنصف عندما وقف الملك ودعا الضباط للاقتراب منه.
كان واضحًا أنه سيقول لهم شيئًا هامًا، وبالفعل فإنهم بعد أن أصبحوا جميعًا على مقربة منه فإنه وبطريقة خطابية قال لهم: أيها الضباط إن حوادث خطيرة تحدث في البلد. ولا بد من اتخاذ إجراءات حاسمة، وأنا أعتمد فيما سأتخذه على ولائكم لأن الحالة الخطيرة التي تجتازها البلاد لا يمكن أن تستمر.
سراج الدين يذهب للملك
وأذن الملك للضباط بالانصراف دون أن يقول لهم الملك أي شىء عن الحرائق التي كانت قد بدأت أو يطلب إليهم التوجه إلى ثكناتهم، لأنهم قد يستدعون للنزول بجنودهم إلى شوارع القاهرة، خرجوا جميعًا من عند الملك وكأن شيئًا لا يجري في هذة المدينة التي تحمل تاريخًا قديمًا يمتد ألف عام، وتعرضت في هذا اليوم لمن يقذف في وجهها بماء النار يشوه أجمل ما فيها.
أما وزير الداخلية فقد ظل في مكانه ينتظر اتصالًا من القصر، وفي الساعة الثانية والربع ومع توالي أخبار الحرائق التي اندلعت فإنه غادر مكتبه متوجها إلى قصرعابدين، وقد وصل إلى هناك في الساعة الثانية والنصف في الوقت الذي كان الملك على وشك إنهاء وليمة الغداء التي أقامها.
واستقبل حافظ عفيفي رئيس الديوان وزير الداخلية الذي شرح له خطورة الموقف وطلب إليه رفع الأمر فورًا إلى صاحب الجلالة.
وتشرف رئيس الديوان – وهذه العبارات التي كانت تستخدم في ذلك الوقت – بمقابلة جلالة الملك وكان معه الفريق حيدر.
وبعد نحو ربع ساعة خرج حافظ عفيفي وحيدر واتجها إلى فؤاد سراج الدين وأبلغاه أن الملك وافق وأمر بنزول الجيش.
التعليق:
كما ذكرنا أن الأستاذ المراغي لم يشاهد هذة الأحداث بنفسه، وإنما يسرد وقائع قيلت له من خلال أشخاص أو من خلال تقارير أو تحريات وزارة الداخلية بدليل جملة {وتشرف رئيس الديوان. بمقابلة جلالة الملك. ومعه الفريق حيدر}.. فهذه العبارة لا تذكر إلا من خلال تقارير، ولكن المشكلة في هذه المذكرات، أن الكلام الذي روي له أو قرأه الأستاذ المراغي، لم يدونه في مذكراته كما هو ولكن أضاف إليه هوى من نفسه ليذهب هذا الكلام في اتجاه آخر قد يكون عن قصد لأسباب لا يعلمها أحد إلا هو (أي الأستاذ المراغي)… غير أننا نلاحظ ملاحظة هامة هنا هي أن الأستاذ المراغي في تلك الفقرة لم يشر إلى أي مهام لرئيس الديوان حافظ عفيفي باشا، إلا في العبارة السابقة مع أن البروتوكول الملكي والتقاليد الدستورية تجعل من رئيس الديوان الملكي هو حلقة الوصل الرسمية الوحيدة بين الوزراء والملك وذلك في الأعمال الخاصة بالحكومة، غير أن الأستاذ المراغي تجاهل ذلك وذكر أن الاتصالات التي جرت بين وزير الداخلية فؤاد سراج الدين والملك والخاصة باستدعاء الجيش أثناء حريق القاهرة كانت عن طريق الفريق حيدر.
لكن تعال بنا أيها القارىء نحلل الفقرة السابقة تحليلًا مفصلًا لأن تلك الفقرة أعتقد أنها تتضمن الكثير من شبهات التزييف بل أنها تميل أكثر إلى التحريف.
أولًا: نجد في هذه الفقرة المطولة أن وزير الداخلية فؤاد سراج الدين طلب بنزول الجيش ثم عاود وطلب إلغاء نزول الجيش ثم تراجع وطلب مجددًا بنزول الجيش، ويدل ذلك على أنه كان هناك تردد في نزول الجيش من قبل وزير الداخلية فؤاد سراج الدين أثناء حريق القاهرة.
ولنحسب مطالبات وزير الداخلية فؤاد سراج الدين بنزول الجيش أو عدوله عنها بحساب الوقت أو الزمن فنجد:
فى الساعة الثانية عشر والنصف اتصل وزير الداخلية بقائد القوات المسلحة الفريق محمد حيدر طالبًا إليه نزول الجيش.
وبعد نصف ساعة في حوالي الواحدة عاود وزير الدخلية الاتصال بقائد الجيش ليبلغه عدوله عن طلبه بنزول الجيش.
ولم تلبث أن تمر ربع ساعة من طلب الوزير سراج الدين بإلغاء نزول الجيش، في حوالي الواحدة والربع ظهرًا عاد وزير الداخلية مجددًا يطالب بنزول الجيش.
إذن الساعة الواحدة والربع هي الميعاد النهائي لطلب وزير الداخلية بعد تردده بنزول الجيش.
ونفهم من سرد المراغي لهذه الفقرة من مذكراته، أن القصر الملكي حدد ميعاد المأدبة بالساعة الواحدة والربع. ففي ذلك الميعاد بالدقيقة دخل الملك فاروق قاعة المأدبة.
أيضًا ذكر المراغي أن وزير الداخلية بحث عن الفريق حيدر طويلًا حتى وجده! ولم يحدد المراغي كم مر من الوقت بحساب الساعات والدقائق الذي استغرقه وزير الداخلية في البحث عن الفريق حيدر كما فعل في مطالبات وزير الداخلية بنزول الجيش!
ولكن نفهم من مضمون الفقرة السابقة أن وزير الداخلية أرسل رسالة لقائد الجيش الفريق حيدر في قاعة المأدبة قبيل تناول الطعام تم تسليمها لأحد موظفي القصر الذي بدوره سلمها للفريق حيدر الذي كان يجلس بجوار الملك، وقام الفريق حيدر بإبلاغها للملك فما كان من رد الملك إلا أن قال أجلها إلى ما بعد الغذاء.
ولم نفهم من هذه الفقرة كيفية إرسال وزير الداخلية رسالته هل هي عن طريق التليفون أم عن طريق رسول خاص حتى يمكننا حساب الوقت الذي استغرقه وزير الداخلية في تبليغ طلبه بنزول الجيش مع الوضع في الحسبان الوقت الذي أضاعه في البحث عن الفريق حيدر حتى وجده.
ولنفرض أن وزير الداخلية فؤاد سراج الدين بلغ رسالته عن طريق التليفون حتى وصلت إلى الملك واستغرقت خمس عشر دقيقة.
إذن الملك علم بطلب وزير الداخلية بنزول الجيش في الواحدة والنصف.
وانتهت الوليمة التي أقامها الملك لضباط الجيش والبوليس الساعة الثانية والنصف.
وفى أثناء ذلك ذهب الوزير سراج الدين حسب كلام المراغي لقصر عابدين في الساعة الثانية والنصف لاستئذان الملك في نزول الجيش، وقد حصل وزير الداخلية على موافقة الملك بعد ربع ساعة من وصوله لقصر عابدين.
إذن هذا التسلسل الوقتي تسلسل طبيعي جدًا ليس فيه أي ممانعة أو مماطلة أو تأخر كما يزعم مزيفو التاريخ.
وللأسف الأستاذ المراغي اتهم الملك بالمماطلة في نزول الجيش لفض المظاهرات وإنقاذ البلد من التدمير بل تحامل على الملك بقوله أن الملك فاروق رفض إبلاغ الضباط بنزول الجيش لفض المظاهرات ولكنه خطب فيهم خطبة حماسية فقط.
ولكن المتمعن في قراءة مذكرات المراغي التي استقاها من خلال تقارير وتحريات أمنية يفهم بسهولة ويسر أن الملك فاروق أبلغ الضباط بضرورة نزول الجيش بعد انتهاء المأدبة مباشرة. والدليل على ذلك هذه العبارة {وانتهت المأدبة، كانت الساعة الثانية والنصف عندما وقف الملك ودعا الضباط للاقتراب منه.
كان واضحًا أنه سيقول لهم شيئًا هامًا، وبالفعل فإنهم بعد أن أصبحوا جميعًا على مقربة منه فإنه وبطريقة خطابية قال لهم: أيها الضباط إن حوادث خطيرة تحدث في البلد. ولا بد من اتخاذ إجراءات حاسمة، وأنا أعتمد فيما سأتخذه على ولائكم لأن الحالة الخطيرة التي تجتازها البلاد لا يمكن أن تستمر.
من خلال هذا الجزء الصغير من الفقرة السابقة من مذكرات المراغي يفهم الشخص العادي ذو البصيرة أن الملك فاروق أبلغ الضباط بالأحداث التي توجهها البلاد كما أخبرهم من وجوب اتخاذ إجراءات رادعة. ولكن بطريق غير مباشر وبصيغة عامة لأن الدخول في التفاصيل وطبيعة المهام وطريق التنفيذ ليس من أختصاص الملك من الناحية الفعلية، بل هي من اختصاص السلطة التنفيذية ومسئولي الأمن بالتعاون مع قيادات الجيش.
والغريب أن الأستاذ المراغي وهو محام خبير بل ووزير داخلية أكثر من مرة يعرف ذلك جيدًا.
يتبع مع الجزء الثالث من الحلقة الثانية، بالمقال القادم إن شاء الله.
عرض المصادر بنهاية الحلقة الثانية.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست