بعد كثير من المشي قادتني خطاي بصُحبة صديق لي إلى الوقوف قُبالة النيل، وبنظرة إلى المياه المتلاطمة في حلكة الليل، سألت صديقي عن الشجاعة التي يتطلبها قرار مثل القفز في تلك المياه التي لا يُرى فيها أثرٌ من شدة الحلكة، بعد تأميم على الكلام، أشار صديقي لقرار أصعب وهو القفز من أعلى بناية ما، ففي الحالة الثانية لا يتصور المنتحر فقط سيناريو للخلاص من الحياة والقفز خارج الزمن، بل هو مضطر لتخيُل سيناريو لا مفر منه، وهو لحظة اصطدام الجسد بالأرض، هذا الشيء الرطب، في احتكاكه بالأرض يبدو مأساويًا بقدر لا مثيل له، قدرٌ كفيل بأن يُثنِي الشخص المنتحر عن قراره، أو هكذا قد نتخيل بأقل قدر من المنطق.

لكن ما الذي يحدث ليبدو القرار على الأقل بالنسبة لنا بهذه السهولة على وجوه المنتحرين؟ ولا أعني بالسهولة هنا سهولة القرار بقدر ما أعني سهولة تنفيذ فعل الانتحار، والسهولة هنا مهما بدت لن تعني السهولة التي نتخيلها، لن يكون الانتحار أبدًا وبأي شكل من الأشكال قرارًا سهلًا، بل هو مخاضٌ عسير، مليء بالظُلمة التي تُمني بالنور، والنهاية التي تروم البداية. حول الطريق إلى قرار الانتحار يدور النص لا ليحلل أسباب الانتحار ودوافعه، بل ليُقدِم قراءة ترنو لتفكيك علاقة شائكة بين الجسد والحداثة والخلاص. حين نكون أمام ذات تروم الخلاص بالتحرر من الجسد عبر القفز خارج الزمن.

هامش على ثلاثي الجسد والحداثة والخلاص

في عالم متخم بالفجيعة، واللوعة، نتخيل أحيانًا أن ما بيننا وبين الخلاص لا يعدو أن يكون هذا الجسد الضئيل إذا ما قورن بالكون الواسع. لذا تبزغ فكرة الانتحار كخلاص من هذا الجسد. وفي رسائل عدد كبير من المنتحرين تتبدى هذه القناعة، حيث الاعتقاد بأن الخلاص يأتي بالتخلص من الجسد والقفز خارج الزمن. وتاريخيًا فإن مؤسسة التعذيب كانت قد فطنت لهذا المعنى، وترجمته في منظومتها بما يحرم المعذبين من هذا الخلاص، وانتهجت أساليب تمنع عن المعذبين خلاص الموت، ولكنها تمنحهم موتًا متقطعًا، موت اللاموت. ولسنا هنا بصدد مقارنة حالة الانتحار الاختياري بحالة الخلاص من التعذيب، لكنها محاولة لتفكيك هذا الثلاثي الذي لا يخرج فعل الانتحار خارجه. ومرة أخرى يُتصور الجسد كخط أخير فاصل بين جحيم الحياة ونعيم الموت.

لا يمكن القول أبدًا إن الانتحار منتج خالص للحداثة، لأن الانتحار قديم قدم الوجود الإنساني، لكن المؤكد أن الانتحار لم يتحول إلى مقولة هوياتية إلا بفعل الحداثة. لأن الحداثة ومنذ البداية حاججت بعنف عن الإنسان الذي يتحكم فيما أبعد حتى من الجسد، بل في الطبيعة نفسها. إنسان الحداثة الذي لم يعد يرتكز إلا على ذاته بلغة هيدجر(1). لذا فهذا الغرور الذي أورثته الحداثة للإنسان كان الأرضية ليتحول الانتحار لمقولة أيديولوجية، بمعنى أننا نعيش اليوم وبين أظهُرنا منتحرون لم ينتحروا بعد، لكنهم عاشوا الانتحار كفكرة وفلسفة حياة.

لم تنفك الحداثة منذ اليوم الأول عن تضخيم الذات الإنسانية، وفي مشروع الإنسان الحديث تقع الذات في قلب العالم وحولها تدور كل الموجودات. وهي حالة لم تخدم الإنسان على الحقيقة ككينونة في هذا العالم، إذ إن اللحظة التي شعر فيها الإنسان أنه سيد العالم، تداخلت معها لحظة قاتمة حين أدرك كم هو عسير وحزين وضئيل وجوده في هذا العالم الواسع.

الحداثة والجسد: الطريق لشرعنة الانتحار

إن الحساسية الجسدية هي أهم سمات الحداثة. حيث طورت الحداثة نظرة الإنسان إلى جسده، هذا الجسد الذي اعتقد البشر من قديم أنه ملك لله، وأمانة ترد إلى مالكها، تحول مع الحداثة إلى ملكية إنسانية خالصة، ومع الثقل الذي أورثته حداثة لم توفي بوعودها بعالم أكثر رخاءً وطمأنينة للإنسان. رام الإنسان التخلص من هذا الثقل الروحي بتقديم جسده هذا الذي ظنه أحد ممتلكاته قربانًا لخلاصه. ومن هنا بالتحديد تمت شرعنة الانتحار؛ إذ ما دام الجسد قد صار ملكية للإنسان ومهيمنًا عليه، فإن له أن يفعل به/فيه ما يشاء.

وفي الحقيقة لم يكن احتفاء الحداثة بالجسد بريئًا تمامًا، أو تطورًا طبيعيًا لفلسفات الحداثة ورؤيتها العامة للكون والإنسان فحسب، بل كان أيضًا ذا علاقة وثيقة بأغراض رأسمالية.

لقد ذهبت الحداثة طويلًا في مسارها المادى لتفكيك الإنسان، لتتعامل معه ككائن بسيط، ذي رغبات لا نهائية، تحتاج لمن يُشبعها، وبهذا التبسيط وحده أمكن لها أن تحوله لسلعة رأسمالية، ينطبق عليها ما ينطبق على غيرها من منتجات الرأسمالية. ورغم أن الإنسان يتصور تحكمه في جسده، وأنه مهيمن على ما سواه حتى على السلع التي يتعرض لها ويشتريها أو الخدمات التي يستعملها، فإن هذا الأمر ظل على الدوام محل نظر، فنحن اليوم حين نشرع بالتبضع من أحد المراكز التجارية فإن سؤالًا ملحًا يجب أن نسأله: من يتحكم في ما يحتاجه جسدنا؟ هل نحن؟ أم أن آلة الرأسمالية الدعائية الجبارة هي التي تحدد لنا ما يحتاجه هذا الجسد؟ وبالتالي ما نقوم بشرائه واستعماله؟

مرة أخرى تنجح الرأسمالية في أن تجعل من هذا الجسد الذي لم يكن على الحقيقة سوى مطية للروح، تحوله الرأسمالية إلى إله يتحكم في الروح ويوجهها. بل يذهب أنطون مقدسي لما هو أبعد حين يكتب: «إن روحانية الإنسان في هذا العصر هي روحانية الجسد، والأدلة على ذلك لا تحصى منها دور التجميل للنساء، (والآن للرجال) ومسابقات ملكات الجمال، والأفلام السينمائية، والعناية بالجسد»(2).

الانتحار ووهم الإرادة الحرة

لم يعد الانتحار اليوم قرارًا فرديًا يعبر عن إرادة حرة تعكسُ طوق الإنسان للخلاص. إذ لم يعد هذا القرار بريئًا تمامًا من تدخلات رأسمالية وحداثية تقبع في خلفيته. فقد بات واضحًا اليوم أن تيارًا عريضًا يقف خلف تدعيم حالة الحزن والعدمية كتيار قائم وأصيل. بالتأكيد العالم حزين وبه من أسباب العدمية ما تنوء من حمله العصبة أولي القوة، لكن الجديد هنا أن الاحتفاء بهذا التيار إنما يأتى من شركات رأسمالية عملاقة تربح المليارات من بيع أدوية وعقاقير مضادات الاكتئاب. وثمة حاجة ملحة اليوم للتفكير في هذه الأرقام المفزعة عن الكميات التي تبيعها هذه الشركات من أدوية الاكتئاب والصحة النفسية، وكذلك عن الأرباح التي تجنيها.

الانتحار كمبالاة قصوى بالعالم

رغم أن الانتحار يمكن مقاربته باعتباره سُنام التعبير عن اللامبالاة بالحياة والعالم فإنه وللمفارقة قد يُقارب كأعلى تجلي للمبالاة بها أيضًا. فمن يُقدِم على الانتحار فإنه يكون قد عاش قدرًا من المبالاة بالحياة مكابدًا مأسيها يومًا بيوم، وتفتت روحه الحزينة وجسده النحيل مع كل فاجعة للإنسان بداخله وللإنسان في العالم. بهذا القدر الكبير من المبالاة بفجيعة العالم التي تفتقر لأي قدر من الخفة يأتي الانتحار كنتيجة نهائية للمبالاة بالحياة التي في أفضل حالاتها لم تكن لتستحق كل هذه المبالاة.

ومرة أخرى يخطئ من يفكر في الانتحار باعتباره تعبيرًا عن اللامبالاة بالحياة فقط؛ لأننا في الحقيقة حين نفكر في الموت فإننا نُعبِر بذلك عن مبالاة كبيرة بفعل الحياة، والعكس صحيح، وهو ما تنبه له الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا حين كتب: «هل يمكن أن نتعلّم كيف نحيا؟ أن نعلّمه؟ أنا لم أتعلّم أبدا كيف أحيا. إذْ إنّ تعلّم الحياة يعني تعلم الموت، أن نأخذه في الحسبان، أن نقبل به (من دون خلاص، ولا بعث، ولا غفران). منذ أفلاطون، هو الأمر الفلسفي نفسه: أن نتفلسف، هو أن نتعلم الموت. لكنّني لم أتعلم أن أقبله، الموت. نحن كلنا ناجون مع تأجيل التنفيذ».(3)

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ننتصر على الحياة بالقفز خارجها أم أنها تكون المنتصر الوحيد؟ لأنها تثبت مرة أخرى أنها لا يمكن أن تُتجاهل، وأنها تقفُ بجوارنا حتى في أشد لحظاتنا حُلكة حين يرفع المنتحر لها رايته البيضاء مسلمًا لها بعبقرية لا نظير لها في الضحك على هشاشاتنا اللانهائية.

خلاص في نهاية النفق: عن كثافة اللحظة والزمن الواقف

سِمة اللحظة دائمًا أن تكون عابرة، إلا لو تخيل الإنسان في لحظة ما أن الآن هو الغد الممتد هكذا حتى النهاية، عندها فقط يحل الآين محل السرمدية، ويتحول ما نعيشه اليوم إلى مستقبلنا، أي حدوث حالة من حالات طغيان الحاضر على المستقبل. هذا الزمن الواقف يحمل في طياته كثافة هائلة، كثافة تُمهد للانتحار.

مع الزمن الواقف يمكن أن تتحول خيانة حبيب أو فشل دراسي، أو فقدان وظيفة… إلخ، إلى تصور للديمومة هكذا بلا نهاية، هذه اللحظات تحمل في حقيقة الأمر قدرًا ثقيلًا من الكثافة، لا يمكن أبدًا أن تكون صيرورة إنسانية. فلا يمكن للإنسان أبدًا العيش في هذه الحالة من الهياج المشاعِري، مهما كان اتجاهه. لكن حين نتصور اللحظة كزمن واقف، فإننا نسقط في بئر يوسف، بئر عميق من العجز عن تخيُل حياة تتجاوز اللحظة الراهنة، هذه اللحظة التي تبتلعنا وتبتلع معها كل أشعة المستقبل التي يحاول المحيط الاجتماعي أن يمررها للشخص الراغب في الانتحار.

بالتأكيد لا يوجد انتحار حتمي، بمعنى أنه ثمة طريق دائمًا للتراجع عن فعل الانتحار، لكن المؤكد أن هذا الطريق لا يبدأ إلا بالعبور من نقطة الزمن الواقف، هذا الطريق بدايته أن يدرك من يفكر في الانتحار بتأقيت الآني، وألا ديمومة للزمن، مهما بدا عليه من زيف الأبدية.

وللعبور من هذا الزمن الواقف لابد للمرء على الدوام أن يهرب من الكثافة، أي تلك اللحظات الشعورية المبالغة، أفراحًا كانت أو أتراحًا.

أخيرًا يجب أن يُفهم النص هنا لا كمحاولة لإظهار تهافت الانتحار في عالم اليوم، لأن للانتحار اليوم أسبابه العديدة، لكن المؤكد وما يحاول المقال إظهاره هو أن الانتحار لم يعد قرارًا فرديًا يؤشر على حرية الناس اليوم في تحديد مصائر أجسادهم، لأن الرأسمالية وترسانتها ما تركت شيئًا إلا واستثمرت فيه، حتى الموت هو الأخر لم يخلو من منطق الربحية. لذا فالانتحار اليوم ما عاد قرارًا فرديًا يرنو إلى الخلاص، بل صار هوية لها من يدافع عنها ويُنظر لها، لا بغرض البحث عن خلاص للبشرية المعذبة اليوم، بل لتحقيق أرباح تضمن لهؤلاء العيش الرغيد. لقد بتنا أمام مُنظرين كبار للانتحار لن ينتحروا أبدًا، وأمام آلة إعلامية وتسويقية وثقافية تعيش اليوم من وعلى إنتاج مواد تحتفي بالحزن والعدمية. في عصور حديثة لا تتحقق ماهيتها بشكل كامل إلا بالغياب التام للمعنى كما يقول هيدجر(4).

يتم في هذه الحالة تصوير الانتحار كشكل لطيف من الحياة المستحيلة. لتأتي تاليًا شركات رأسمالية تتربح من بيع الأدوية لبشر يتناصوا مع الحياة أجسادًا بلا أرواح، في عالم كان قد فقد بريقه من قديم.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد