إنها القصة الحتمية المتكررة دائمًا وأبدًا مع اختلاف التفاصيل قليلًا أو كثيرًا، إنها قصة الحب الذي ينهار وتنهار معه روح الإنسان بعد ما ينكسر قلبه، تلك القصة التي تبدأ بحب بلا زواج، وتنتهى بزواج بلا حب غالبًا وعادة ما يفشل أو يعاني منه الإنسان طوال حياته، أو يصبح مجرد روتين ممل «يدرس فيه الرجل والمرأة مخطط الزواج لمدة ثلاثة أسابيع، ثم يتحاب العروسان لمدة ثلاثة أشهر، بعدها يتصارعان لمدة ثلاث سنوات، ثم يتعايشان لمدة ثلاثين عامًا، ثم يبدأ الأطفال هذا السيناريو من جديد!» على حد تعبير أحد الأدباء الغربيين.

إن هناك مشكلة جوهرية تتعلق بكيفية توفيق الإنسان بين تطلعاته وأشواقه الروحية، وبين حاجاته الجسدية المادية؛ فكيف يحافظ المرء على العفة دون أن يتخلى عن الحب؟ وكيف يضبط الرغبة الجنسية لحيوان يمكن أن يكون إنسانًا ولكنه لا يستطيع أن يكون ملاكًا؟!

والزواج مؤسسة قديمة قدم الإنسان وهو نموذج حي للصراع بين الأفكار والواقع، فالدين المجرد يتطلب العفة المطلقة، والمادية باعتبارها مبدأ تسمح بالحرية الجنسية الكاملة، إلا أن كلا المذهبين عندما واجهته المشاكل فى التطبيق تحركا فى اتجاه مؤسسة الزواج باعتباره حلًا وسطًا (بيجوفيتش).

إن الخديعة التي يقع فيها العقل هي خديعة بيولوجية هدفها الحفاظ على النوع ويحركها غريزة البقاء، وذلك ما يدفع المرء إلى الزواج بهدف التكاثر فحسب! ولعل أبلغ تأكيد على ذلك هو أن كلًا من الرجل والمرأة لا يعرفان حقًا لماذا يتزوجان! فالرجل عادة ما تكون إجابته «سُنة الحياة» والمرأة عادة ما تكون إجابتها «قسمة ونصيب» وكلا الإجابتين ليستا سوى كلاشيه مبتذل بلا معنى أو مضمون حقيقي يعبران عن فقدان المعنى والأمل بعد ما فقدا الحب.

وطالما ظل الزواج مجرد سبيل للتكاثر فحسب، فإنه لا أمل على الإطلاق في إيجاد السكينة والمودة والرحمة التي هي آية من آيات الله يُعرِض عنها الناس كما يُعرضون عن آيات أخرى، فكثير من الناس يعتقد أن تلك الآية يتم تفعيلها تلقائيًا بمجرد عقد النكاح! وذلك وهم يكذبه الواقع قبل أن يكذبه المنطق السليم، فالزواج المعَنْي بقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أن خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ} ليس الزواج المبني على الهدف البيولوجي البحت بل لعل الهدف البيولوجي البحت ليس محل تقدير فى القرآن {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}، {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ..}، {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ..} لأن الزواج بدافع التكاثر ليس سوى تدنٍ يهبط بالإنسان لمرتبة الحيوان، وإن كانت تلك الغريزة مشتركة بينهما فإن الإنسان يميل إلى تمييز نفسه عبر المبالغة فى الطقوس المادية للزواج والتي تبدأ بوضع معايير الاختيار والتي تتضمن الحالة الاقتصادية والمنزلة الاجتماعية، والتي تظهر فى المؤخر، والشبكة، وتكاليف الفرح الخرافية…إلخ، إنها جميعًا ليست إلا محاولات مادية لإخفاء الطبيعية الحيوانية لمثل ذلك الزواج! إنه فعليًا لا يختلف عن التكاثر الذي يتم فى مملكة الحيوان إلا اختلافًا فى الشكل والطريقة لا المضمون والحقيقة.

ولذلك كانت أحاديث الرسول دائما ما تؤكد الجانب الأخلاقي «فاظفر بذات الدين»، «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه» وهو الجانب الإنساني الذي فيه التمايز الحقيقي عن عالم الحيوان، إنه توجيه التكاثر إلى غاية أسمى وهي التكوثر، والتكوثر تعني ما زاد الخير فيه، وهي زيادة معنوية جوانية، وهو بالقطع يختلف عن التكاثر الذي ليس سوى زيادة مادية برانية فحسب.

ولأن المفاهيم المسيطرة على المجتمع هي مفاهيم التكاثر، ستجد أن تلك الشعوب غالبا ما تعتبر أن هناك إنجازًا ما تحقق لأنها أكثر عددًا! فيتفاخرون تفاخر الجاهلية الأولى بعدد الأبناء وتعداد السكان!

والبعض ربما سيشير إلى حديث الرسول الذي فيه حض على التكاثر «فإنى مباه بكم الأمم يوم القيامة» – أو كما قال صلى الله عليه وسلم – ولعل هؤلاء أغفلوا أن هناك ارتباطًا شرطيًّا بين التكاثر والتباهي بين الأمم، فالتباهي هنا ليس للعدد إنما للأفعال، وذلك يتفق مع حديث الحوض الذي يحُال بين الرسول وبعض من أمته فيقول: «يارب أمتي أمتي فيقال له إنك لا تدرى ما أحدثوا من بعدك فيقول سُحقًا سُحقًا بُعدًا بُعدًا!» إذًا فالعدد لم يدفع الرسول إلى المباهاه إنما الأفعال المقرونة بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهو ما يجعلها خير أمه أخرجت للناس حقًا وهذا هو عين التكوثر وليس التكاثر.

والبيوت إما تُبني على الحب «ما رأيت للمتحابين خيرًا من النكاح» أو تُبنى على الاختيار الأخلاقي الديني وكلاهما قيم إنسانية أبعد ما تكون عن القيم المادية العقلانية التي يتم الاختيار على أساسها الآن، والقيم الإنسانية وحدها هي التي تجعل الإنسان يخرج من حمأة الطين إلى نفخة الروح، إنه يتحرر من ماديته فينشأ هنا ذلك الزواج الذي يتخلله السكينة والمودة والرحمة بخلاف ذلك الزواج الذي هدفه وغايته التكاثر فحسب، مما يُنشئ ذلك الصراع الدارويني من أجل البقاء، ذلك الصراع المادي الذي يفكك الإنسان ويدمره بل ويحوله إلى كائن مفسد فى الأرض، وتسلط الأهل والمجتمع وتدخلهم فى شؤون الزواج أمر لا ينبغي له أن يستمر فإقامة الأسرة لا ينبغي لها أن تخضع للمجتمع لأن الأسرة والمجتمع متنافرين، ذلك لأن المبدأ الرابط فى الأسرة هو المودة والرحمة، بينما فى المجتمع هو المصلحة والمنفعة، وكلما زاد تدخل المجتمع شهدنا تراجعًا فى الأسرة وتكوينها حتى تتلاشى تمامًا وهو ما وصلنا له أو نكاد، فارتفاع نسب العزوف عن الزواج ونسب العنوسة، وارتفاع نسب الطلاق كلها دلائل تشير إلى وجود أزمة فى فعل الزواج نفسه لأنه لم يعد زواجًا كما أراده الله ورسوله إنما تحول إلى شيء آخر تمامًا، شيء مدمر للعلاقات ولكل القيم الإنسانية السامية من حب ومودة وعطف ورحمة، فأصبحت العلاقات أغلبها نفعية استغلالية قائمة على المصلحة والاستبداد والعنف والحقد…إلخ، علاقات تعاقدية صراعية وليست تراحمية تكاملية.

وان كانت تلك هي العلاقة السائدة بين الرجل والمرأة وهما الوحدة الأساسية لأي مجتمع فلك أن تتصور حال تلك المجتمعات كيف يكون وكيف هي علاقاتها الأخرى فى العمل وفى المجال السياسي وغيره!

وان كان ذلك هو الوضع الراهن فإنه لا يعني إلا أن نقاتل من أجل الحب وأن نستسلم للأمر الواقع، فإذا كان الحيوان محكوم عليه أن يتكاثر فحسب من أجل الحفاظ على النوع فذلك لأنه لا يستطيع أن يتحكم فى غريزته ورغباته المادية، أما الإنسان فإنه قادر على التجاوز وقادر على التحكم فى غرائزه وينبغى عليه ذلك، وإلا فإنه لا أمل بالخروج من الجحيم الذي ألقينا أنفسنا جميعًا بداخله؛ جحيم الجسد ومتطلباته المادية التي لا تنتهي والتي أطفأت أرواحنا وجعلتها تخبو، ويستحيل على الحب أن ينمو في قلب لا روح فيه إلا إذا كان حبًا مزيفًا، وما أكثره هذه الأيام.

ولعل ذلك سيكون السبيل للخروج بالزواج من ضيق التكاثر إلى رحابة التكوثر حتى يصبح زواجًا له غاية أخلاقية تكون سكنًا ويحوطه الحب والمودة وتحميه الرحمة، لا زواج لمجرد الزواج حتى يتحول إلى غاية فى حد ذاته، وتصبح غاية تُبرَّرُ من أجلِها كل وسيلة بما فيها الكذب والغش والخداع والتلاعب والتحايل وكل تلك المشاعر الزائفة التي يتصنعها كلا الطرفين على نفسه وعلى الآخر حتى يتم الزواج، ثم سرعان ما تتساقط الأكاذيب واحدة تلو الأخرى!

والله أعلم.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد