بلا شك شغلت الفنون حيزًا عظيمًا من التاريخ الإنساني، فكانت معيارًا من معايير تقدم الأمم وتحضرها، وكانت وسيلة للتعارف بين الشعوب، وأداة لحفظ الثقافات والعادات ورأس المال التراثي لكل أمة.
وفي عصر ثورة التكنولوجيا، اتسعت دائرة التفاعل مع الأعمال الفنية، لقدرة التكنولوجيا العجيبة إلى إيصال بعض منها لكل بيت كصناعة الأفلام والمسلسلات، ومحتويات وسائل التواصل الاجتماعي القصيرة والطويلة، التي خرجت عن أشكال الفنون التقليدية، فلا هي أفلام وثائقية، ولا دراما اجتماعية، ولا غيرها.
وأصبحت الفنون تعاني من أزمة جديدة لم تكن لتخطر على بال باحث جمالي قديم، استطاع من خلال دراسته لعلم الجمال تفسير اهتمام الناس بما هو جمالي، وهي أزمة المحتوى التافه، أي المحتوى الذي لا يطرح أي قيمة جمالية حقيقة، فلا غرابة أو جدةً فيه، ولا معرفة أو حكمة، وما هو بالجميل ولا الجليل ولا العظيم.
والغريب أن المتابع لصناعة المحتوى التافه يجد أنها تلقى إعجابًا كبيرًا، وتحظى باهتمام عظيم.
وإن كانت مهنة إنتاج المحتوى التافه مربحة ماديًّا لدرجة أنها تفسر سلوك منتجيها، فكيف سنفسر اهتمام المتابع لها؟
من خلال الحديث عن ثلاثة عوامل رئيسة، تدفع كثيرًا من المتلقين إلى المتابعة والتعلق بالمحتوى التافه، سأحاول تفسير الجماهرية التي تحظى بها هذه الأعمال:
أولًا: التبسيط والتسطيح
من أبرز مظاهر الحياة المعاصرة اتجاه الإنسان نحو التبسيط والتسطيح، وإنكار التعقيد أو التعمق، وهذا له انعكاسه في مختلف جوانب الحياة، فلو أخذنا على سبيل المثال، نماذج إدارة المشروعات اليوم نجد أنها تعتمد تحديد المراحل والخطوات بدقة، وتقديم أدوات للتعامل مع كل مرحلة بشكل مباشر، دون ترك المساحة الكافية للتفكير بشكل حر، ودون أن تعطي لمدير المشروع فرصة التفكير بغائية وفلسفة كل مرحلة، وكذلك الأمر تجد لوحة الإرشادات في كل مبنى رسمي مليئة بالأوراق التي تحدد لك أبرز خمس خطوات يجب أن تقوم بها في كل حالة نوعية، مثل التعامل مع المخاطر، وبالطبع فإن كل تلك الإرشادات تركز على البساطة والمباشرة والمحدودية، ناهيك عن لغة الخطابات والمراسلات الرسمية وغير الرسمية، التي وضعت بقوالب تدعو للبساطة والمباشرة في الطرح. وحتى لو ابتعدنا عن جانب العلاقات الإدارية قليلًا وهي أساس ما نعيشه بشكل يومي، وأردنا أن ننظر إلى انعكاس ظاهرة التبسيط في جوانب أخرى مثل الفنون التطبيقية كفن العمارة مثلًا، تجد أن الفرق كبير جدًّا بين نمط وزينة الأبنية التي نبنيها اليوم عما كانت عليه في عصور سابقة، فمن ينظر إلى قصر الحمراء مثلًا، يجد أن في كل زاوية منه منظر جمالي عميق ومعقد، كأن القصر يحتفي بفلسفة الصوفي للوجود، التي جسدها من خلال دوائره اللانهاية المقدمة في شكل زخارف نباتية تزين الجدران، والمتدلية كعناقيد العنب من رأس كل عمود راسخ فيه، وتجد أن يمين القصر ليس كواجهته أو يساره، وأن غرفه مترابطة ومتداخلة ومتكاملة مع بعضها البعض كحال الناس في ذلك الزمان. في الوقت الذي تجد في أبنية أعظم المباني الحديثة الكبرى في العالم تعتمد على التبسيط والتكرار دون تمايز، تخلو من البصمة الخاصة لكل جهة أو مظهر أو موضع، وأن الفارق الوحيد بين غرفه يكون في رقم تسلسلي لصق على أبوابها.
حتى التكنولوجيا المعاصرة لم تخل من أثر التبسيط عليها، مثل أنظمة وتطبيقات الأجهزة الذكية التي يعتبر سر نجاحها في بساطتها كنظام ويندوز مثلًا. أضف إليها كثرة استعمالنا لما نسميه بمخططات المعلومات البيانية «الإنفوجرافيك»، التي تقدم لنا المعلومات بشكل تمثيلي مرئي يساعدنا على تبسيط المعلومات من قببل رسم نسبة 90% مثلًا بحجم أكبر بكثير من 10%، على الرغم أن المعلومة الأصلية المتوفرة كافية لإيصال المعرفة، إلا أنها احتاجت إلى مزيد من التبسيط البصري لإظهار أن نسبة 90% أكبر من 10%.
من خلال عرض هذه الأمثلة أعتقد أننا نستطيع أن نفهم لماذا يميل كثير من جمهور مواقع التواصل الاجتماعي إلى المحتوى البسيط والسطحي، الخالي من الأفكار العميقة، البعيد عن الجوهر الذي يستدعي الانتباه والتفكير والتحليل، والذي لا يتطلب التركبز لفترة طويلة في ظل حياة متقطعة مزدحمة كتقطع محطات المترو وازدحام ركابها، وبالتأكيد نخلص إلى أن المحتوى التافه الذي يتحدث عن يوم عادي لأحد الفنانين يعد أكثر المحتويات تحقيقًا لمعيار البساطة والسطحية.
ثانيًا: وهم المعايشة
يعيش الإنسان بشكل طبيعي وهم المعايشة لحالة الآخر المتقدم عليه في مجاله اهتمامه، وربما يحاول الانتقال من واقعه العاجز إلى تخيل نفسه متجسدًا في شخصية أخرى، وأبسط مثال لها هو الامتزاج الوهمي بين الطفل المتابع لأفلام الرسوم المتحركة وأبطالها، فهو يعيش حالة البطل بكل حركاته وانتقالاته ومآزقه وبطولاته، ولو راقبته لشاهدته يتمثل أفعاله وسكناته أثناء المشاهدة الحية وبعدها، فالطفل لم يعد يميز نفسه عن بطله الذي يشاهده، كذلك الأمر لو راقبت المراهقين المدمنين على ألعاب الفيديو، لوجدت أنهم يتحركون بكامل أجسادهم مع شخصية اللعبة حين تميل يمينًا أو يسارًا وما كان ليفعل ذلك لولا أنه فقد القدرة على الإحساس بالفارق بين واقعه ووهم اللعبة.
وبالتأكيد هذا ليس سلوك الأطفال واليافعين فقط، فالبالغون أيضًا يعيشون ويستغرقون في التماهي مع شخصية أبطال السينما والدراما التي يتابعون، لتجد أن لكل بطل وهمي في مسلسل مشهور ما، هناك عشرات ومئات النسخ منه من المتابعين الذين اكتسبوا من الشخصية طريقة حديثها وسلوكها، ولحاولوا أيضًا المرور بنفس التجارب المؤلمة رغبة منهم أن يكرروا سلوكه المحبوب بالنسبة لهم.
كذلك الأمر تجد أن الرياضي محدود القدرة لا يمل متابعة أبطال رياضته، والأديب البسيط شغوف بمتابعة فيلم عن حياة أديب مشهور، لأنه بذلك يعيش وهم إنجاز الآخر.
والسبب الرئيس في كل ما ذكرته من أمثلة هنا، هو رغبة الإنسان المحبط والعاجز عن الوصول لنمط حياة ما أو شخصية ما، أن يكمل نقص واقعه بمحاكاة وتماهٍ مع شخصية يتابعها، لذلك يعشق بعض الناس متابعة الفيديوهات التافهة لأشخاص بلا قيمة حقيقية ولكنهم يبالغون فقط في عكس حياة الترف والثراء الفاحش، والعلاقات المبتذلة التي هي الحلم مستحيل التحقق في واقع متابعيهم التعيس.
ثالثًا: التأثير المعياري الاجتماعي
بلا شك فإن انتشار مواقع التواصل الاجتماعي كانت أبرز عوامل انتشار المحتوى التافه، نظرًا إلى سهولة إنتاجه، وقلة تكلفته ويسر إيصاله للمتابع، على عكس ما كان سابقًا، إذ إن إنتاج أي عمل مسرحي مثلًا يتطلب كادر عمل كبير، ووقتًا وجهدًا كبيرين في تطبيق العروض التحضيرية، ويتطلب بالتأكيد وجود مسارح جاهزة لعرض العمل، وعلى المشاهد أخيرًا أن يتحمل عناء الذهاب إلى موقع محدد في ساعات محددة وأن يدفع ثمن التذكرة، ليستمتع بالعرض. وعلى الرغم من أن البحث موجه لتفسير سلوك المتابع للمحتوى التافه لا منتجه، فإنه يجب علينا أن نفهم كيف يصل هذا المحتوى للمتابع. ولفهم ذلك سنأخذ «فيسبوك» أنموذجًا لوسائل التواصل الاجتماعي.
حيث يعمل «فيسبوك» على إظهار المحتويات بشكل انتقائي بناء على عدة خوارزميات، والتي تعد مجموعة من العوامل والمعادلات المعقدة التي تنتخب للمتابع نسبة 0.2% من الأحداث والأخبار والمنشورات على صفحات الأصدقاء والصفحات التي يشترك بها صاحب الحساب، والتي تقع ضمن نطاق وصول صفحته، وتصفى الأخبار وتظهر بناء على معايير يعد من أبرزها عدد الإعجابات والتعليقات والمشاركات التي نالها المنشور من قبل أصدقاء صفحة المشترك وغيرهم، بمعنى آخر فإننا نشاهد أكثر المحتويات التي شاهدها الآخرون أو تفاعلوا معها، وبعد مشاهدتنا لها سنزيد فرصة ظهورها على حسابات الآخرين تباعًا، وهكذا فإن الفوارق بين المنشورات تتضاعف بشكل جنوني، ويكون سبب مضاعفة المشاهدات بعيدًا كل البعد عن معنى المحتوى المقدم وجديته، أو أي قيمة جمالية معروفة، بل هو مقتصر على آلية ترويج محددة لا تقدر قيمة المحتوى. وبذلك أصبحت بعض ظواهر «فيسبوك» مفسرة أكثر، مثل أن تنشى صفحة ما هو جذاب لفئة معينة، ثم تبيع الصفحة لجهة إعلانية ترويجية، حيث إن أصدقاء تلك الصفحة وأصدقاء الأصدقاء وحتى العالم الخارجي سيكونون أكثر عرضة لتلقي منشورات تلك الصحفة لكثرة معجبيها، وتجد أيضًا تفسيرًا لظاهرة الذباب الإلكتروني الصريح المعتمد على الإعجابات الوهمية لحسابات وهمية، أو الاستجدائي الذي يقوم به مروجو أي محتوى بالطلب المباشر من المتابعين الإعجاب أو المديح، وبالتأكيد لا مانع لديهم حتى من استخدام ألفاظ الشتم والتقريع في التعليقات، فالمهم هو تفاعل المشاهد ليصل المنشور لمشاهدين آخرين.
ولكن، ما الذي يدفع كثيرًا من الناس إلى الاهتمام أصلًا بمنشورات ومحتويات حصدت آلاف الإعجابات رغم تفاهتها؟ لماذا لا يجري تجاهلها طالما أن المحتوى لا يقدم قيمة جمالية؟
الجواب هنا شرحه سلومون آش في تجربة قام بها عام 1951 وسماها بتجربة الامتثال، حيث تخلص التجربة أن الناس يميلون إلى إنكار قناعاتهم ومواقفهم الفردية مقابل الالتحاق برأي المجموعة سعيًا لتحقيق التكافؤ الاجتماعي، حتى لو كان رأي المجموعة فيه مخالفة لحقائق عينية قطعية، وذلك خشية الوقوع في تناقض مع رأي الأغلبية الذي شكل تأثيرًا اجتماعيًّا معياريًّا.
وبذلك فإننا نكتشف أن آلاف المتابعين لمحتوى تافه ما هم واقعون تحت تخدير التأثير المعياري الاجتماعي، وأنهم لا يؤمنون بشكل حقيقي بأهمية المحتوى بقدر إيمانهم بضرورة التماثل مع الآخرين.
أخيرًا: فإن الأسباب سابقة الذكر هي مدخل للتفكير الجدي لفهم ظاهرة انتشار محتوى التفاهة في كثير من الأعمال الحديثة، لكنها بكل تأكيد لا تقتصر عليها، بل هناك عوامل معززة أخرى مثل تحول متابعة هذه المحتويات إلى نموذج حياتي للبعض «لايف ستايل»، بالإضافة إلى فقدان المعنى والبوصلة الجمالية عند المتابع المعاصر وغيرها.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست