بعد خمسة أشهرٍ من العمل الجاد لمنع وصول فيروس كورونا إلى غزة، نجح الوباء في التسلل والدخول إلى القطاع المحاصر، والذي تتكالب عليه الأزمات، أزمة تلو آخرى، إذ سجلت أولى حالات الإصابة بالفيروس من خارج أماكن الحجر الصحي بتاريخ 24 أغسطس (آب) 2020، لتبدأ إثر ذلك مرحلة جديدة من مواجهة الوباء، مؤسساتيًّا ومجتمعيًّا وإعلاميًّا، حيث بدا الإعلام حاضرًا بكل وسائله في مواجهة هذا الوباء، تغطيةً للأحداث، ونقلًا لأرقام الإصابات، وتوعيةً للجمهور.

لكن ما تشهده الساحة الإعلامية الغزيَّة من حالات النشر الإعلامي غير المضبوط، ومن كثرة ما يعرفون بـ«النشطاء»، وزخم تداولهم للشائعات، يجسد حالة من «الفوضى» الإعلامية في التغطية الصحفية الخاصة بالوباء الذي يتفشى في القطاع، ويُطرَح هنا السؤال المهم: هل هناك ضوابط ومحددات تحكم التغطية الإعلامية وتضبطها بشكلٍ متوازن، دون تهوينٍ من الوباء أو تهويلٍ له؟

نستعرض هنا بعض أشكال التغطية الإعلامية التي يقوم بها إعلاميو غزة والناطقون باسم مؤسساتها سواء في الإعلام التقليدي أو الإعلام الجديد:

1. كثرة المتحدثين الإعلاميين:

تزخر المجموعات الإخبارية الإلكترونية بالتصريحات الخاصة بآخر مستجدات الوباء، وبدلاً من أن يكون هناك لجنة واحدة متخصصة في نشر أخبار كورونا والتعليق عليها وتوضيحها للجمهور، ونقلها على لسان متحدثٍ واحد كما جرى في العديد من الدول، نجد الحال لدينا عديد من المتحدثين وكثرة الناطقين، من وزارة الصحة إلى وزارة الداخلية والشرطة، مرورًا بالشؤون الاجتماعية وتجمع المؤسسات الخيرية وليس انتهاءً بوزارة الاقتصاد والزراعة، وغيرها من المؤسسات واللجان التي تظهر على الساحة الإعلامية كل يوم، ليغرق المواطن في بحرٍ من الأخبار القادمة من مؤسسات حكومية متعددة، ولو أنه جرى تشكيل لجنة من الوزارات السابقة تنسق فيما بينها وتتعاون خلف الإعلام، ثم يُعلَن على لسان متحدثٍ باسمها (رئيس المكتب الإعلامي الحكومي مثلًا) ما جرى التوصل إليه في الجوانب كافة، لكانت الحالة الإعلامية أكثر ضبطًا وتماسكًا.

2. طبيعة المواد المنشورة:

إن الأخبار المتعلقة بمستجدات كورونا في غزة، مثل أعداد الإصابات والوفيات، وما يتعلق بجديد حالة حظر التجول المفروضة في القطاع، أو حتى النشرات التوعوية للتعامل مع المرض لا تشكل إلا النسبة الضئيلة من المحتوى الإعلامي الخاص بالوباء، بالمقارنة مع ما تمتلئ به المجموعات والصفحات الإخبارية من مواد نكاتٍ وسخرية، وصور ورسوماتٍ مضحكة، وفيديوهاتٍ كوميدية، ربما تعكس حالة عدم الاهتمام واللامبالاة التي وصل لها الشعب، من جراء الأزمات التي عانى منها على مدار سنواتٍ مضت، وما يزال يرزح تحتها.

ليغيب عن الساحة الإعلامية الإعلام الصحي المتخصص، وإعلام الأزمات، الذي من المفترض أن ينشط في هذه الأوقات الصعبة فينظم السيل الإعلامي المعلوماتي ويضبطه وفق المصلحة العامة، كأن يؤدي الإعلام الصحي دوره في التوجيه والإرشاد والتوعية، ويُفعِّل إعلام الأزمات أدواته في التحكم بما يُنشر وما لا يُنشر حتى يبقى المواطن بعيدًا عن حالة الذعر والهلع التي قد تصيبه إثر الضخ الإعلامي الكبير، وفي الوقت ذاته تقنين حالة السخرية والكوميديا التي قد تشجع على اللامبالاة وإهمال الإجراءات الاحترازية المطلوبة في هذه الأوقات الصعبة.

3. كثرة تداول الإشاعات:

تعجُّ مواقع التواصل الاجتماعي بالمعلومات حول مصدر الفيروس، وحالات الإصابة به، وأساليب الوقاية منه وسبل العلاج، ويتحدث بهذا المختص وغير المختص، ليخرج كم هائل من هذه المعلومات إلى الملأ، تحوي ضمنها الغث والسمين، الصحيحة منها والمغلوطة، وتشكل بهذا مواقع التواصل تربةً خصبةً لنشر الإشاعات وتداولها، فبدلًا من أن يتأكد صاحب الحساب من المعلومة التي يريد نشرها، يسارع إلى النشر تحت بند «مصدر خاص»، «مصدر مطلع» «متداول» وهكذا تجد الإشاعات طريقها بين المتابعين، كالنار في الهشيم دون أن يكون هناك حسيب أو رقيب.

4. نشر الأسماء.. انتهاكٌ للخصوصية:

بمجرد نشر خبر اكتشاف أول سيدةٍ مصابة بالفيروس من داخل القطاع، وخارج أماكن الحجر الصحي المخصصة للعائدين من الخارج، انهالت عليها المنشورات، مطالبة بمحاسبتها وعقابها واتهامها بأنها السبب في إدخال الوباء إلى غزة، في الوقت الذي لم تسلم فيه أي بقعةٍ في العالم من هذا الفيروس! ليتبين بعد ذلك، ووفق مصادر رسمية أن الفيروس يتجول في غزة منذ أول أغسطس، وأن هذه السيدة ليست الأولى من مصابي القطاع.

يعد ما سبق مثالًا واحدًا على انتهاك خصوصية المصابين، زاد من انتشار هذه الانتهاكات مواقع التواصل الاجتماعي التي سمحت للجميع بمساحةٍ غير مقيدةٍ من الحرية، متجاهلين أن حريتك لا تعطيك الحق في شتم المصابين أو السخرية منهم والتهكم عليهم، مع الحرص الشديد على معرفة أسماء المصابين أو كشف عائلاتهم، لتبدأ بعد ذلك سيل الشتائم أو التعاطف أو حتى التحذير منهم، متناسين أن جميعنا عرضة للإصابة بهذا الفيروس، وأن الإصابة ليست إثمًا أو جريمة، بل الجريمة في الفعل غير الأخلاقي الذي يتعرضون فيه للمصابين وعائلاتهم، ومن هنا يبرز دور وأهمية الجهات الإعلامية في ردع هذا التدخل في خصوصيات المرضى، ومنع هذا النوع من الاعتداء اللفظي وما يترتب عليه من آثارٍ نفسية واجتماعية على المصاب بالفيروس.

مما سبق، نستنتج أن مواكبة الإعلام لفيروس كورونا في غزة، هي مواكبةٌ عشوائية وغير منضبطة بحاجة إلى مزيدٍ من الإجراءات الإعلامية الضابطة، ومن هذه الإجراءات على سبيل المثال:

1. تخصيص متحدث إعلامي واحد أو اثنين بالتناوب، للحد من تعدد الناطقين وكثرتهم.

2. تكثيف النشرات الصحية التوعوية الخاصة بالوباء، شرط أن تكون من المصادر الطبية المتخصصة.

3. التحذير من مُروِّجي الإشاعات، وعدم التفاعل معهم ومقاطعتهم.

4. حظر نشر أسماء المصابين وعائلاتهم وأماكن سُكناهم، ومخالفة من يقوم بذلك.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد