يقال «من أراد الحكم فليصنع له إعلامًا قويًّا». وهذا ما طبقته الجزائر حرفيًّا؛ إذ سخرت فضاءها الإعلامي للدعاية وعبادة الأشخاص، وممارسة التضليل والإلهاء، والتحريض على الكراهية، والجهوية والعنصرية بين أفراد الشعب الواحد، ونشر الأخبار والإشاعات التي تتهم فلانًا بالخيانة، وتنصع صورة علان، المنظومة الإعلامية نفسها التي لم تتحرر من الدعاية انهارت وغرقت في التبعية الأجهزة الأمنية والإدارية منذ إلغاء المسار الديمقراطي سنة 1992، كما ذابت في شبكات عصب النظام، وهذا الوضع ازداد تعقيدًا منذ أن فرضه بوتفليقة في الحكم سنة 1999.
تسعينيات القرن الماضي والحرب ضد المدنيين كشفت عن العلاقة الوطيدة والعضوية بين مديري المؤسسات الإعلامية وعصب منظومة الحكم، ففي هذا المجال يمكن تأكيد أن أول مؤشر على ذلك هو اصطفاف غالبية هؤلاء وراء إلغاء المسار الانتخابي سنة 1992، كما أن الغالبية العظمى منهم مارسوا حرب كراهية ضد كل النخب السياسية التي رفضت الانسياق وراء سياسة الاستئصال، والعودة إلى الأرشيف تمكننا من إنتاج «قاموس كراهية» ضد بعض الشخصيات السياسية والحقوقية التي وقعت على أرضية العقد الوطني، بين وصف الخيانة والعمالة الأجنبية الحاقدة، ووصف الشيطان والعمل للمخابرات الصليبية، وخيانة الشهداء، وتأييد الإرهاب وغيرها الكثير من المسميات التي أذيعت ونشرت في الإعلام العمومي سابقًا، أو الخاص حاليًا، والذي تخصص في التخوين وتوزيع شهادات الوطنية على البعض ونزعها من البعض الآخر.
هذا الوضع أنتج إعلامَ كراهية ينشر الكذب والتضليل، ويضخم الخلافات، ويخفي خروقات حقوق الإنسان، بل يبررها كذلك. إعلام صفق للقتل خارج القانون، وللاختطاف والتعذيب، بحجة أن الضحايا من «الإرهابين الأصوليين»، وكان في الوقت ذاته هدفًا للعنف وتغذيته ضمانًا لاستمراريته.
العودة إلى هذه الفترة تعطينا نبذة عن امتدادات العصب والشبكات في منظومة إعلامية أنتجت مديرين أغنياء، وصحافيين يعانون العوز (في حال لم يعتقلوا أو يقتلوا)، ومهنة منكوبة يمكن للصحافي أن يمارس فيها كل شيء باستثناء مهنته.
هذا الوضع ازداد تعقيدًا مع بداية العهدة الثانية للرئيس المستقيل، أو المقال إن صح التعبير، والذي عمل على إغراق السوق الإعلامية بعناوين ميتة تم إحياؤها بالتعاون مع مصالح الاستخبارات التي أوجدت عناوين جديدة هي الأخرى، ويعود الفضل في ذلك لريع الإشهار العمومي وإشهار القطاع الخاص المرتبط بالشركات متعددة الجنسيات.
ومع بداية عام 2008، اتضحت خطة تكميم الأفواه التي تنتقد أو تتحفظ من سياسة بوتفليقة، ليتزامن كل هذا مع انتشار الفساد وظهور جيل من الصحافيين الذين اتخذوا طريق الابتزاز مصدرًا للثراء السريع، ولو كان ذلك على حساب قيمهم وأخلاقيات المهنة، وهي الظاهرة التي استفحلت مع ظهور القنوات الخاصة بموجب قانون الإعلام المعدل عام 2012، هذه القنوات التي تأسست بصفتها شركات أجنبية وسُمح لها بالظهور في إطار استراتيجية التسيير الإداري والأمني لما يسمى بـ«الربيع العربي».
اكتمل المشهد بغلق كامل للساحة الإعلامية أمام كل الآراء التي لا تتفق مع بوتفليقة وحاشيته، وإسكات قوى المعارضة، إلى أن جاءت ثورة «22 فيفري» (فبراير/ شباط) التي عرَّت حقيقة هذه المنظومة، التي لم تتحرك لمغازلة الشارع إلا عندما فعل قائد الأركان السابق أحمد قايد صالح – رحمه الله – ذلك، فانقلبت على شبكات بوتفليقة التي كانت سببًا في ظهور وتمويل العديد منها، لتبدأ حملات كراهية واسعة ضد الرئيس السابق ورجاله، والكثير من السياسيين والنشطاء الذين خالفوا ورقة الطريق التي رسمها قائد الأركان السابق آنذاك، والتي تمثلت في الانتخابات التي أفرزت بدورها رئيسًا محسوبًا على النظام السابق ومرفوضًا شعبيًّا لغاية كتابة هذه الأسطر.
عمل الإعلام العمومي وقتها دور الابن الصالح الذي انتقل وبسرعة فائقة من نقل رسائل الرئيس إلى إذاعة وبث خطابات قائد الأركان، وتنظيم حصص لشرح وتحليل خطاباته وأبعادها، لتتحول نشرة الثامنة من النشرة الرئيسية للنشرة العسكرية بامتياز، وأمام هذا الوضع وحملات التشويه والتعتيم الذي تتعرض له ثورة الشعب، أصبح الشارع يندد بالإعلام ويراه جزءًا من المشكلة؛ فهو الإعلام الذي انتقل من الدعوة إلى الانقلاب وتأييده، والدعاية للحرب ضد المدنيين في التسعينيات، إلى التطبيل لبوتفليقة وشبكاته الفاسدة في الداخل والخارج، ثم نعتهم بالعصابة ومحاولة استصغار ثورة أربعين مليون مواطن، وإطلاق لقب «الشرذمة» عليهم، لن يكون أبدًا هذا الإعلام أحد الحلول للخروج من الأزمة.
أكبر ضحية فيما يحدث هو مهنة الصحافة، وحق الجمهور في الإعلام، وغياب ثقافة الدولة التي تمكن الصحافي من أن يفهم عمليًّا الفرق بين الدولة والسلطة، بين الفكرة والكراهية، بين الإعلام والدعاية، وبين أخلاقيات المهنة والرقابة الذاتية.
الجزائر الجديدة ستولد بمسار تغيير شامل يكون فيه الإعلام أحد أهداف التغيير وأحد آلياته في الوقت ذاته؛ حتى توجد منظومة إعلامية مهنية نزيهة تساهم في تأسيس الفضاء العمومي، الكفيل بإحداث القطيعة النهائية مع الشخصنة في نطاق بناء المؤسسات التي تزهر في دولة يكون المواطن فيها هو مصدر كل سلطة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست