إزدهر الجو الإعلامي كثيرًا في العراق في الفترة التي أعقبت سقوط النظام البعثي في نيسان (أبريل) من العام ٢٠٠٣، بعد أن كان حكرًا على وسائل محدودة جدًا وخاضعًا لضوابط صارمة ومقيدة.
تجاوز عدد وسائل الإعلام المحلية في العراق المئات بين صحف وإذاعات وقنوات فضائية وأخرى أرضية ومحلية ، يضاف إليها العديد من الوكالات الإخبارية والمواقع الإلكترونية التي لاقت رواجًا كبيرًا بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي في المجتمع العراقي.
لم يقتصر الأمر على وسائل الإعلام فحسب؛ بل تعددت المؤسسات الرقابية، وطفت إلى السطح الخلافات والادعاءات بأحقية كل مؤسسة من هذه المؤسسات بقيادة دفة العمل الرقابي، ومنح الإجازات والموافقات لممارسته، فهناك نقابة الصحفيين العراقيين والنقابة الوطنية للصحفيين وهيئة الإعلام والاتصالات واتحاد الإذاعات والتلفزيونات العراقية، واتحاد الصحفيين العراقيين وغيرها الكثير .
في ظل هذه التعددية تشظت مفاهيم وقواعد العمل الصحفي والإعلامي وضاعت المعايير المتعارف عليها؛ ليزداد عدد المنتحلين لصفة (الإعلامي) والحاملين لمختلف الهويات التعريفية من جهات ومؤسسات يخلو بعضها من أبسط شروط هذه المهنة ، حتى أصبح نقل المنشورات ومشاركتها على مواقع التواصل الاجتماعي مؤهلًا ومبررًا للبعض لنعت أنفسهم بهذه الصفة.
غياب الرقابة لم يقتصر على الأفراد فقط ، فقد غابت الرقابة عن جهات ومؤسسات تنتحل صفة المؤسسات الإعلامية ، فانتشرت وبشكلٍ مُبالغٍ فيه التسميات الإعلامية لأندية ومطاعم وملاهٍ ليلية اتخذت من اسم المؤسسة الإعلامية غطاءً محصنًا لها من التبعات القانونية.
ضعف الجانب الرقابي أو غيابه فتح الأبواب أيضًا للأنشطة السياسية و التجارية، وغيرها لاقتحام العمل الاعلامي دون الأخذ بالمعايير والضوابط الفنية والقانونية المعمول بها في هذا الميدان، فالمؤسسة التابعة لحزب ما أو لتاجرٍ ما أو في بعض الأحيان لمُنجِّم أو مفسر أحلام تصوغ لوائحها على وفق ماتراه يتناسب مع مصلحتها دون الاكتراث بما يعنيه للعاملين في أروقتها من أفراد الأسرة الصحفية ، كما أنها تقوم بتعيين من يتوافق مع مصلحتها بدءًا من رأس الهرم وانتهاءً بأصغر أفرادها، الأمر الذي ينعكس سلبًا على قيمة وموثوقية العمل الصحفي، فضلًا عن إضفاء الصفة الصحفية على مَن لا يملك المؤهلات الكافية للعمل بها.
في ظل هذه الأجواء يندفع العديد من الصحافيين والإعلاميين إلى العمل الصحفي الحر مع أكثر من جهة محلية أو خارجية في وقتٍ واحدٍ، وهذا بدوره يولد مناخًا من التشتت وغياب الرؤية الواضحة وانفصامًا وشرخًا كبيرًا في الخطاب الإعلامي، والشخصية الإعلامية على حدٍ سواء، فأكثر الإعلاميين يعمل صباحًا مع مؤسسة ما، وينتقل بعد انتهاء دوامه إلى العمل في مؤسسةٍ أخرى بعيدةٍ كل البعد، بل ومتناقضة مع طروحات وأيديولوجية المؤسسة الأولى، ثم ينتقل ليلًا للبوح عما في نفسه والتعبير عن رأيه الخاص على مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا بحد ذاته هو التشظي والضياع بأنصع صوره.
صعوبات ومعرقلات أخرى تواجه العمل الإعلامي في العراق؛ أبرزها العقبات التي تضعها نقابة الصحافيين أمام الكثير من العاملين في المؤسسات الإعلامية؛ للحيلولة دون انتسابهم للنقابة وحصولهم على هويتها؛ إذ تلعب العلاقات دورًا كبيرًا ومؤثرًا في الحصول على هذه الهوية، يُضاف إليها الأوضاع الأمنية غير المستقرة وقصر نظرة المجتمع إلى العامل في الميدان الإعلامي، حتى بات المنتسب إلى مؤسسة ما محسوبًا عليها ومؤاخذًا بسياستها ومدى تقبلها أو رفضها من الشارع، وهذا ما أدى إلى أن يدفع البعض حياته ثمنًا لهذا الفهم الخطأ.
كثرة العاملين والمحسوبين على الوسط الإعلامي ألقى بظلاله على الوضع المادي والمعيشي لهذه الشريحة، إذ تدنت مستحقات ورواتب الإعلاميين قياسًا بالسنوات الماضية في ظل عدم وجود معايير ثابتة تلزم المؤسسات الإعلامية بدفع مايستحقه أفرادها بشكلٍ عادل.
هذه المعطيات وغيرها تدفع الكثيرين إلى طرق أبواب المؤسسات غير المحلية من صحف وقنوات ومواقع إخبارية عربية وعالمية تتمتع بنسبة أعلى من المهنية في التعامل مع أفرادها، وهذا بدوره لا يخلو من خطورة تتمثل بخلو الساحة المحلية من الكفاءات الصحفية أو شحها، وكذلك بتحديات أمنية يتحمل عواقبها العاملون مع هذه المؤسسات بسبب الفهم الخطأ للبعض أو تعارضه مع أيديولوجيات هذه المؤسسة أو تلك الجهة .
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست