اصطلح الناس على حقائق لا تقبل شكًّا أو جدالًا، ولا يختلف عليها صاحب فكر سديد، أنه من أراد أن يعلو شأنه وترتفع مكانته في المجتمع، وأن يصل إلى أفئدة الناس قبل عقولهم فسيكون ذلك من خلال أمور أهمها: الدين والسياسة.
والسؤال كيف يمكن للمرء أن يمزج بين الاثنين لخداع الناس أملًا في التقرب إلى حاكم أو وزير، مستغلًا جهل الناس وعاطفتهم الدينية؟
إن ما يحدث من فوضى استخدام الدين وبالتحديد الفتوى الدينية في معظم المجتمعات الإسلامية اليوم؛ خاصة من المؤسسات الدينية الرسمية أو المؤسسات التي تسيطر عليها الدولة: تهدف إلى تشويه أصحاب الآراء المعارضة لإرضاء حاكم أو مسؤول؛ كل ذلك دليل على سوء حال هذه المؤسسات وسوء خطابها في فهم الدين، وما يزيد الوضع سوءًا هو استخدام هؤلاء آيات وأحاديث في غير مواضعها مع تشويه وتغيير معناها حسب أهوائهم، وربما تمادوا في الحث على سجن وقتل الآخرين خاصة المعارضين.
وللعلم ليست هذه الآفة وليدة اليوم، وإنما استخدمت في أوروبا خاصة في القرون الوسطى، حيث عظم شأن الدين وازدادت سطوته، وبالتالي ازدادت سطوة رجال الدين في المجتمع، حتى أنهم باتوا يتحكمون في أفكار ومعتقدات الناس، ووصل بهم الحال من الهيمنة والسيطرة على المجتمع أنهم تحكموا في تعيين الحاكم وعزله، ومع كل هذا كانوا يحكمون بقتل كل من تسول له نفسه ولو بسؤال يعارض آراءهم وأهواءهم، خاصة من يتجه من الناس إلى مجال البحث والمعرفة، ولنا في «جاليليو» خير دليل على تسلط رجال الدين والكنيسة على أفكار الناس.
وما زالوا على هذا الحال حتى جاء «مارتن لوثر» وترجم الكتاب المقدس من اللغة اللاتينية إلى الألمانية، حتى يفهمه عامة الناس، حيث كان فهم الكتاب المقدس حكرًا على الكنيسة ورجالها، ومن ثم استفاق الناس على واقع مرير، وثاروا على كهنوت الكنيسة ورجال الدين، وطالبوا بعزل رجال الدين بل والدين نفسه عن الدولة، وصاروا ينتخبوا حكامهم بعيدًا عن الكنيسة وعن رجالها؛ وقد أطلقوا على هذا العصر «عصر التنوير».
وعند الانتقال إلى المجتمع الإسلامي سنجد واقعًا قريبًا من واقع أوروبا قديمًا. والسؤال هل ينتظر رجال الدين الإسلامي أن يحدث لهم مثل ما حدث في أوروبا من ابتعاد الناس عن الدين بأفعالهم وأقوالهم؟
لقد كان الدين الإسلامي في القرون السابقة يحكم حياة المسلم من خلال الدولة؛ لكن الإسلام لم يكن يحكم الدولة، وبمعنى آخر كانت الدولة تحكم الدين وتتحكم فيه وليس العكس.
ومع المثال يتضح المقال «مؤسسة الأزهر الشريف» هي أكبر مؤسسة إسلامية على مستوى العالم، فمنذ نشأة الأزهر على يد «جوهر الصقيلي» صار للأزهر مكانته ولعلمائه ورجاله كل تقدير وهيبه واحترام من عامة المسلمين بل وغير المسلمين. وللأزهر الشريف شيخه الأكبر الذي كان فيما سبق يأتي عن طريق الانتخاب من هيئة اصطلح الناس على تسميتها «هيئة كبار العلماء» حتى الخمسينيات من القرن التاسع عشر.
ومنذ ذلك الحين صارت الدولة هي من تعين شيخ الأزهر، ومن ثم صار شيخ الأزهر تابعًا لكل ما تتبناه الدولة، ومع مرور الزمن بات شيخ الأزهر كالألعوبة في يد الدولة تستخدمه وقتما تشاء وتستغني عنه في أي مكان تشاء؛ فمثلًا من يتقلد منصب شيخ الأزهر في هذا الوقت كان رئيسًا لجامعته قبل أن تجعله الدولة شيخًا للأزهر، وفي نفس الوقت كان عضوًا في الأمانة العليا لحزب حكم مصر أكثر من ثلاثين سنة؛ لم يشعر الناس أثناء حكم هذا الحزب إلا بمزيدٍ من الفقر والجوع المدقع والمرض والعوز وإهدار لكرامة الإنسان؛ وللأسف الشديد كان هذا تحت سمع وبصر شيخنا القابع على مشيخة الأزهر الآن، وعندما سأله أحد الناس في مرة من المرات: ما العلاقة بين الأزهر وهذا الحزب؟ كانت إجابته بلا كلل أو تردد كالعلاقة بين الشمس والقمر يحتاجان إلى بعضهما البعض، ومن ثم صار أكبر رأس في الأزهر يُشرّعن أو يسكت على ظلم الناس وأكل أموالهم، وبالتالي قلت منزلة شيخ الأزهر ورجاله في أعين الناس.
ليس شيخ الأزهر ورجاله هم وحدهم من يستغلوا الدين لمصالحهم؛ فهناك من التيارات الإسلامية من يستغل الدين سواء كان ذلك باستخدام رجال الدين لهذا التيار، هادفين إلى التأثير على الناس خاصة عند الدخول في الانتخابات أو أي اقتراع، بل ويصل ببعضهم إلى تفسيق أو تكفير من يخالفه الرأي، متعللين بتمكين الشريعة، ولكن الشريعة من آرائهم وأهوائهم براء.
ما يمكن أن ننصح به هؤلاء أنه لن يرجع رجل الدين إلى سابق مكانته من الاحترام والتبجيل بين الناس، إلا من خلال الابتعاد عن سلطان الدولة أو بالأحرى ألاعيب السياسة. وليس معنى هذا أن نطبق العلمانية الغريبة من فصل الدين عن الدولة؛ وإنما فصل رجال الدين عن الدولة، وكذلك رجال الدين من التيارات الدينية عن العمل السياسي أو الحزبي.
وليس معنى هذا أن نفقدهم حقًّا من حقوقهم وهو ممارسة السياسة، ولكن حفاظًا على مكانة الدين ورجاله في عقول وقلوب الناس يجب أن ينفصلوا عن السياسة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست