(رُؤَى نَقديَّة لواقع وتاريخ التيار الإسلامي كلِّه بُغْيةَ الخروج مِن أزمته الحالية)
المرض الثاني
العَجَــلَـــــة (1 من 3)
تمهيدٌ
العجلة جِبِلَّةٌ إنسانيةٌ يُفْطَرُ الإنسانُ عليها، قال الله عز وجل: “وكَانَ الإنسانُ عَجُولاً” (الإسراء 11)، وقال سبحانه: “خُلِقَ الإنسانُ مِنْ عَجَلٍ” (الأنبياء 37)، ولكنْ مع ذلك فالإنسان يُحْمَدُ إذا قَهَرَ هذه الجِبِلَّة، فَتَحَلَّمَ وتَأَنَّى وصَبر، قال الله سبحانه مادحًا خليله إبراهيم عليه السلام: “إنَّ إبراهيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ” (التوبة 114)، وقال مادحًا ولدَه الفَذَّ إسماعيل عليه السلام: “فبَشَّرْنَاه بغُلامٍ حَليمٍ” (الصافات 101)، وقال كذلك: “والله يُحِبُّ الصَّابِرينَ” (آل عمران 146)، وقال صلى الله عليه وسلم مادحًا أَشَجَّ عَبْدِ القَيْسِ، واسمه المُنْذِرُ بن عَائِذٍ العَبْدِي رَضِيَ الله تعالى عنه: “إنَّ فيك لَخَصْلَتَيْنِ يُحبُّهما الله، الحِلمُ والأَنَاة”. (أخرجه مسلم)
تدل كل تلكم النصوص-بمجموعها- على أن العجلةَ مذمومةٌ لا يحبها الله ورسوله.
الوصف المَرَضِيُّ
وهذه العجلة تَطْغَى -في كثيرٍ من الأحيان- على آراء الداعية وتصرفاته، بل وعلى رؤيته الدعوية وخَطِّه العملي، فتجد مِنَ الدعاة والعلماء مَنْ لا يتأمل طويلاً في أبْعاد آرائه وتصريحاته ومنهجه الدعوي، ولا يَسْتَشْرِفُ المستقبل القريب-فضلاً عن البعيد- حين يضعُ خُطَطَه وأهدافَه الدعوية، وينسَى أن التاريخ سيذْكُرُه -يومًا ما- وسيأتي مَنْ يُحَلِّلُ ويَتَعَقَّبُ ويَنْتَقِدُ كل ما كان، باعتباره تاريخًا تُؤْخَذُ منه العبرةُ والعِظَة.
أسباب المرض
ولهذا المرض أسبابٌ، أَذكُرُها قبل ذكر أعْراضِه، كما يلي:
1 – الجِبِلَّةُ الإنسانية، وقد مَرَّ الكلامُ عليها.
2 – الغفلةُ عن تدبُّر التاريخ وعواقبِ السابقِين.
3 – ضيقُ الأُفُق، وعدم التطلع لترْك البصمة التي تُحْمَدُ على مَرِّ الزمان.
قال إبراهيم عليه السلام: “رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وأَلْحِقْنِي بالصَّالحِين واجْعَلْ لِي لسانَ صِدْقٍ في الآخِرِين”. (الشعراء 83 و 84)
فها هو الخليل -مع يقينه من وعدِ ربه، وأنه من أهل الجنة- لم يَكْتَفِ بذلك، بل سأل اللهَ أن يجعل له الذكرَ الحسن والثناءَ بعد الموت.
وما أجمل قولَ شوقي في ذات المعنى:
دَقَّـاتُ قلـبِ المـرْءِ قائِلـةٌ لـه: إنَّ الحيــاةَ دقائقٌ وثواني
فارفعْ لنفسك بعد موتِـك ذِكْرَهـا فالذِّكْرُ للإنسان عُمْـرٌ ثاني
الأعراض
وأعراض هذا المرض موجودةٌ بين أبناء كل التيارات الإسلامية، فمن ذلك:
– الإخوان: فَعَجَلَتُهم إلى الوصول للمجتمع المسلم المحكوم بالإسلام= دفعتْهم إلى اقتحام الحياة السياسية بما فيها –ولا بد- من مخالفاتٍ شَرعيةٍ، أَعْلَمُ أنَّ لَدَيْهِم تَأْويلاً في ارْتِكابِها، وأنا عَلى يقينٍ مِنْ حُسْن نيتهم فيما فعلوا.
– الجهاد والجماعة الإسلامية: فعجلتهم إلى العيش في المجتمع المسلم السَّائِدُهُ قِيَمُ الإسلام= دفعتْهم إلى الاصطدام المبَكِّر والمسلَّح بهذا المجتمع، بِدَعْوَى تَغْيِير مَناكِيرِه، وأنا على يقين من حسن نيتهم أيضًا.
–
–
– التَّبليغ: فعجلتهم إلى نشر الدعوة الإسلامية في جَنَباتِ الأرض دفعتهم إلى تَصْدِير مَنْ لا يَكادون يَفْقهون قولاً، ومن لم ينالوا من العلم الشرعي نصيبا، ليَدْعُوا الناس إلى دينٍ هم لا يَعْرِفون عنه أكثرَ منهم بكثيرٍ!
وحُسْن نيتهم عليه مِنَ القرائن ما لا أُحصيه، هكذا أحْسَبُهم، والله حَسِيبُهم. وأما جماعةُ المسلمين (التَّكْفِير): فالأزمة عندهم مُرَكَّبةٌ من العجلة واليأس والشُّعور بالاستعلاء، هكذا بالترتيب، عجلتُهم في تغيير المنكر وإزالة شَواهدِه من ديار المسلمين، تَبِعَها مباشرةً يأسٌ من الإصلاح والدعوة بالحسنى، ثم تلاهما شعورٌ بالاستعلاء على الغير بدَعْوَى أنهم كُفارٌ، وأنهم هم المسلمون فقط!
– وأما من اشتهروا بين الناس باسم (السلفيين) فعندهم من الأعراض الكثير والكثير، وأشهرها:
1- الانشغال بالعبادات الظاهرة أكثر مِنْ العبادات الباطنة، أوبصيغةٍ أخرَى الاهتمام بالمظهر أكثر من الجوهر:
ومن المعلوم من شَرْعنا الحنيف أنه يهتمُّ بالجوهر أكثر من اهتمامه بالمظهر، ويهتم بالكَيْف لا بالكَمِّ، وعلى ذلك دَلَّتْ نصوص القرآن والسنة. قال الله سبحانه: ” يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بنونَ إلا مَنْ أتَى اللهَ بقلبٍ سَليمٍ ” (الشُّعراء 88 و89)، فلمْ يَقُلْ بعبادةٍ عظيمةٍ، ولا حِجابٍ سَابِغٍ، ولا لِحْيةٍ طويلةٍ -مع التَّسْليمِ بوُجُوبِ ما سبق- ولكن الله حَصَرَ النَّفْعَ يوم القيامة في القلب السليم، أي في الكيف لا في الكم.
ولا يَفْهَمُ أحدٌ من كلامي هذا أنني أُقَلِّلُ من شأن الاهتمام بظَواهِر التَّدَيُّن، بل على العكس تمامًا، إنني أعتقدُ أنَّ صَلاحَ الباطن لا بد وأنْ يَتْبَعَه صلاحُ الظاهر، وحَسْبِي في ذلك حديثُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: “… أَلاَ وإِنَّ فِي الْجَسدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وهِيَ الْقَلْبُ”. (أخرجه الشيخان)
ويقول أيضًا: “إنَّ مِنْ أَحَبِّكُم إلَيَّ وأقْرَبِكم مِنِّي مَجْلسًا يوم القيامة أحَاسِنُكم أخلاقًا…” الحديث. (أخرجه الترمذي وحَسَّنَه، وصَحَّحَه الألباني)
فلم يَقُلْ: أكثركم صلاةً ولا صيامًا ولا نَفقةً. والأدلة في ذلك أكثر من أنْ أُحصيها في مقامي هذا، وحسبي وحسبُك ما سبق. أعودُ فأقول: ورغم ذلك كله يمكنُ لمُتابِع الخطاب الدعوي لأكثر الدعاة (السلفيين) أنْ يلاحظ بسَهولةٍ انعكاسَ المِعيار الشرعي في خَطِّهم الدعوي.
ويبدو ذلك جليًا في انتشار واشتهار الكتب والدروس والخطب التي تدعو إلى إعْفاء اللحية وتقْصير الثياب وارتداء النقاب، وفي مقابل ذلك الانتشار تَجِدُ انْحِسارًا في الدعوة إلى الأخلاق القويمة وإصلاح المعاملات وتهذيب النفس.
وإن اعترض عَلَيَّ معترضٌ في وصف (الانحسار)، وزَعم انتشارَ ذلك واشْتِهارَه، فليسمحْ لي أنْ أقولَ له: إنَّ فيما تَقولُ حُجةً عليك لا عليَّ!
فإنه إنْ صَحَّ زعمُك، فأين أثر ذلك بين الأتباع؟ وهل انتشرتْ بينهم أخلاق الأمانة والعفَّة والإنصاف والرحمة والرفق والعدل وإغاثة الملهوف ونُصرة المظلوم ووو…، كما انتشرت اللحية والنقاب؟ أليس من الأفضل مثلاً بدلاً من (كثْرة) الحديث عن النقاب، إكثارُ الحديث عن العفة والحياء؟ لستُ ضدَّ النقاب، ولكنني ضد المنتقبة التي إنْ مَرَّتْ بشارعٍ فالكل يَعرفُ بِمُرُورِها، وإن تكلَّمتْ تَكَسَّرَتْ وخضعت في كلامها، فضلاً عن تعطرها وطريقة مَشْيِها وضيق أو زينة ملابسها!
وأُفَضِّلُ عليها -إذْ الحالُ كذلك- التي كشفَتْ وجهها وكفَّيْها، ولكنها إن مرتْ فلا يَشعرُ بها أحدٌ، وإن تكلمتْ فلا يسمعُها سوَى من تُكَلِّمُ، وإن لبستْ مِنَ اللباس شيئًا فواسعُه وأقلُّه لَفْتًا للأنظار! فالأولى منتقبةٌ مُتبَرِّجِةٌ، والثانية محجبةٌ عفيفةٌ حَيِيَّةٌ!
فهذه الثانية هي التي يمكننا تسميتُها (محجبة)، فالحجاب-مَعْنىً لا اسْمًا- مِنَ السَّتْر وحَجْب كل ما يَفْتَتِنُ به الرجال من النساء (زينتها وكلامها ومشيتها ووو)، لا حجبَ الوجه فقط! هذا هو الحجاب الحق، وما دون ذلك -كالخمار والإدناء والإسدال والملحفة والعباءة ووو- فأسماءٌ لا قيمةَ لها في ميزان الشرع ما لم تُؤَدِّ معنى الحجب.
في الحلقة القادمة من هذه السلسلة نواصل الحديث عن مرض العجلة وأشهر أعراضه بين أبناء التيار الإسلامي، بل الأمة كلها، فتابعونا.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست