عاش رسول الله ﷺ الفترة الأولى من شبابه فقيرًا، لا يسأل، وإذا أعطي لا يأخذ.

لا يعرف التواكل ولا العجز أمام المصاعب والحاجات، ولا الهزيمة أمام ندرة الفرص، وشُحِّ الشواغر المهنية، وإنما شمَّر عن ساعديه، فرعى الأغنام رغم ما فيها من عناء ومشقة، دون عجز أو استكانة.

ثم صار بعد أنْ مَنَّ الله عليه بالغنى يسترجع شريط الذكريات، فيلوح أمامه هذا المشهد «رعاية الأغنام»! فيقف عنده! يرويه –والسرور يملأ نفسه – قائلاً: – كما في رواية البخاري -:«ما بعث الله نبيًّا إلا رعى الغنم»، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: «نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة».

ويقول – كما في رواية ابن ماجه – «ما بعث الله نبيًّا إلا راعي غنم» ، قال له أصحابه: وأنت يا رسول الله؟ قال: «وأنا كنت أرعاها لأهل مكة بالقراريط».

والسؤال الذي نورده:

هل كان يأخذ في مقابل رعي الأغنام أجرة أم كان يرعاها دون مقابل؟

حرفة الرعي كسائر الحِرَف، قائمة على أساس المعاوضة، ولا يوجد في تاريخ البشر بما فيهم الأنبياء، ما يدل على أنهم كانوا يؤدونها دون مقابل، فنبي الله موسى كان يأخذ أجره طعامًا لا نقودًا، ولا يتنافى هذا مع نبوته وكماله وتنزهه عن الحظوظ الدنيوية، لأنَّه لم يقبض الأجرة في مقابل أعمال الدعوة ونشر العقيدة، وإنما أخذها لقاء عمل دنيوي مباح، ليعتاش عليها، ويحفظ بها كرامته.

وقد اختلف العلماء في معنى كلمة (قراريط) الواردة في الحديث السابق:

فذهب البعض إلى أنها نقود ذهبية أو فضية، وهي (كسور الدينار من الذهب أو الدرهم من الفضة)؛ لأنَّ القراريط جمع قيراط، ويساوي القيراط الواحد حوالي (200 ملليجرام) من الذهب أو الفضة، ومعنى ذلك: أنه ﷺ كان يرعاها بأجرة، وهذا ما فهمه البخاري وغيره، ورجحه ابن حجر، ويؤيده رواية ابن ماجه السابقة: (بالقراريط)؛ حيث استخدمت الباء المفيدة لمعنى المعاوضة.

ولقد حاولت استقصاء المرويات التاريخية حول ماهية الأجر؛ أكان بالدراهم الفضية الفارسية أو بالدنانير الذهبية الرومية (وهما العملتان الرائجتان في التداول آنذاك)؟ وكيفية أدائه؛ (باليوم أو بالشهر أو بالسنة)؟

فلم أعثر فيما لدي من مراجع على ما يسعفني في الإجابة عن الاستفسارات السابقة!

إلا أنَّ الراوي (ابن ماجه) نقل عن شيخه (سويد بن سعيد) أحد رواة الحديث، أنَّ النبي ﷺ كان يأخذ في مقابل كلّ رأس من الشياه التي يرعاها، قيراطًا!

وبناءً عليه؛ فإننا إذا افترضنا أنه ﷺ كان يرعى (100) شاة، ويقبض الأجرة على رعايتها، بالدنانير، كل شهر مرة، فإن راتبه الشهري يكون حوالي 4.5 دنانير من الذهب، وفي السنة يبلغ مجموع دخله 54 دينارًا، وهي أجرة باهظة لا تنسجم مع نظرة المجتمع الجاهلي إلى هذه المهنة المتواضعة، ولو كان افتراضنا صحيحًا! لتحسنت أوضاعه ﷺ المالية، ولَمَا عانى في مرحلة شبابه من شظف العيش، وضيق الحال!

وهو من جهة أخرى؛ فرض بعيد! لأنَّ منافع (الرعي) في نظرهم أقلَّ من أنْ يحاسب عليها بالدنانير.

أما إذا افترضنا أنه كان يقبض أجرته بالدراهم، يكون الدخل الشهري قريبًا من سبعة دراهم، وفي السنة 84 درهمًا!

ولم أعثر على نصوص جاهلية فيها أسعار الشعير، والقمح، والتمر، واللباس، تساعدني في تكوين رأي عمّا يمكن تأمينه بهذا المبلغ، والأخبار في أسعار بعض السلع متفاوتة؛ لأنَّ ذلك يتوقف على الكمية، ووجود البديل عنها، والعمر، ودرجة الجودة، ومع ذلك استطيع القول بدرجة معقولة من التأكد بأنَّ سبعة دراهم في الشهر ثمن بخس (دراهم معدودة)! لا تكفي إشباع الحاجات الأساسية، لا سيما إذا نظرنا إلى ضغوط الغلاء وتضخمات الأسعار في مكة؛ لأنَّ اقتصادها لا يعتمد على الإنتاج المحلي، وإنما يقوم على شراء المنتجات الأجنبية وبيعها بسعر أعلى للحصول على الأرباح.

وإذا كان مهر الزواج 500 درهم، وسعر الناقة 400 درهم، ووجبة الطعام بدرهم، والفاكهة بثلاثة دراهم، والثوب بأربعة دراهم، فإنَّ سبعة دراهم لا تغني ولا تسمن، بل لا تبلّ الريق، وتبقي صاحبها محبوسًا في دائرة الفقر، وهي تعادل في وقتنا المعاصر حوالي (17) دولارًا!

وقال الكرماني الحنفي المشهور بابن مَلَك في «شرح المصابيح»، وتابعه علي القاري في «مرقاة المفاتيح»: استأجروه ﷺ على أنْ يعطوه كلّ يوم قيراط، والقيراط يساوي نصف دانق، أو ما يعادل سدس درهم، أي 0.5 جرام.

وبالتالي يكون مجموع دخله ﷺ في الشهر تقريبًا 30 قيراطاً بما يعادل 1.7 دينارًا من الذهب، أو 2.5 درهمًا من الفضة، وهي في الحالين أجرة زهيدة لا تساوي معشار ما يبذله ﷺ من وقت وجهد!

وذهب البعض كالمحدث الشهير إبراهيم بن إسحاق الحربي إلى أنَّ (القراريط) اسم مكان، وصححه ابن الجوزي؛ لأنَّ كلمة (على قراريط) للاستعلاء، ولا تستخدم – في الحقيقة – إلا للدلالة على المواضع المكانية.

وانتُقِدَ هذا الرأي بأنَّ أهل مكة لا يعرفون بها موضعًا يقال له: القراريط!

وتحسن الإشارة إلى أنَّ تفسير «القراريط» بأنها مساحة مكانية، أو بقعة جغرافية؛ لا يعني «عدم وجود أجر»؛ لأنَّ الأصل وجوب الأجر لكل عامل، وعدمه استثناء، ولا يصار إليه إلا بدليل، ولا دليل! كما لا يعني «جهالة الأجر»؛ فإنه كان معلومًا بينهم، وإنما حُذِفَ ذكره في الحديث لعدم أهميته.

وفسَّرَ العلامة محمد أبو زهرة في كتابه «خاتم النبيين» القراريط؛ بأنها حصة معينة من اللبن، يحصل عليها رسول الله ﷺ من مالكي الغنم؛ فيأكل منها، ويتصدق بالباقي.

وهذا التفسير وما سبقه احتمالات قائمة، وقوية، وقابلة للنقاش، وهي متحدة من حيث المبدأ على أنه ﷺ كان يأخذ العوض مقابل الرعي، ومختلفة في بعض التفاصيل، ويمكن الجمع بينها بأنه ﷺ كان يقبض أجره نقدًا من بعض المالكين، ويقبضه لبنًا أو غيره من مالكين آخرين.

مدة العقد.. ومحاسبة الأجرة.. وطريقة الدفع:

لا يبعد أنْ تكون عقود (الرعي) بينه ﷺ وبين أهل مكة مطلقة المدة، ليس لها أمد تنتهي إليه، فتبدأ بيوم وتستمر حتى يسترد المالك أغنامه، معبرًا بهذا عن إنهاء العقد، ويتحدَّد الأجر على أساس المياومة، كل يوم بقيراط، وتتم المحاسبة عليه وتقاضيه في نهاية كل أسبوع أو في أول كل شهر، أو عند التقائه صدفة بأحد المتعاقدين معه، نظرًا لِمَا تستلزمه هذه الوظيفة من غياب طويل مع الأغنام بحثًا عن مواطن الكلأ والماء؛ مما يتعذَّر معه التواصل مع مالكي الأغنام ومطالبتهم بدفع الأجرة.

وهذا يتطلب محاسبة دقيقة لكل عقد، والقدرة على تعيين وتمييز عدد رؤوس الأغنام الداخلة في كل عقد على حدة، وما يزيد عليها بالتوالد، وما ينقص منها بالموت، وهي مهمة صعبة وشاقة تحتاج إلى جهود كبيرة ومركزة، ويقظة ذهنية كاملة!

والخلاصة:

إنَّ للحياة قوانين تجري عليها، وتأبى هذه القوانين أنْ تمطر السماء نقودًا، وإنما يأتي المال بالأسباب الطبيعية؛ والعمل هو السبيل الطبيعي لكسب الرزق، وحفظ الكرامة، والبقاء على قيد الحياة؛ فمن جدَّ وجَدَ، ومَنْ سعى كسب، ومن ترك السعي، عاش فقيرًا، وسقط من أعين الناس.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد