إن كل نظام وضعي يرفض ما بعد الطبيعة، فالوضعية المنطقية كذلك ترفضه، وإن كان الأس الذي تستند إليه في هذا الرفض مختلفًا.
المبحث الأول: المراد بكلمة ما بعد الطبيعة عند أرسطو
كلمة «الميتافيزيقا» اشتهرت بأرسطو، فإن بعض كتبه سمي بهذا الاسم. ولكن الحقيقة أنه لم يسم كتابه بهذا الاسم. بل جامع لكتبه سمى به بعض مباحثه التي كانت بعد علوم الطبيعة. وهو «أندرونيقوس». فحري بنا أن نرى بم سمى أرسطاطاليس نفسه تلك المباحث، وما كانت طبيعة تلك المباحث؟ فنلفى أنه أطلق على تلك المباحث ثلاثة أسماء:
1: العلم الأول. سماه أرسطاطاليس العلم الأول، والمراد بالأولية هنا أولية منطقية، وأسبقية منطقية. فإن هذا العلم يقتضي المنطق والعقل أن يكون أساسًا لكل علم آخر.
فلنأخذ على سبيل المثال علم الحساب الذي يعنى بالأعداد أي الكم المتصل، وعلم الهندسة الذي يدور حول الكم المنفصل. ولكن كليهما يشترك في العدد الذي يدرس في علم الرياضة. فالرياضة من هذه الناحية تسبق علمي الحساب والهندسة، حيث كان موضوعها شاملًا لموضوعات العلمين. فله أسبقية منطقية وأولية منطقية. فالعلم الذي كان موضوعه أعم من موضوعات علوم أخرى، كان أسبق منها من حيث المنطق. وهذه الفكرة قائمة على التفرقة بين الجنس والنوع والفصل. فالعلم العام بمنزلة الجنس، والعلوم الفرعية بمنزلة الأنواع. فكل علم فرعي موضوعه موضوع العلم الجنسي مع زيادة فاصلة. فالرياضة علم جنسي، موضوعه العدد. أما الحساب فموضوعه الكم مع ملاحظة كونه متصلًا. فالاتصال هنا بمنزلة الفصل. ويضحى علم الحساب بانضمام هذا الفصل إلى موضوع العلم الجنسي بمنزلة النوع. فيقصد أرسطو بجعل هذا العلم الذي سمي بعد بما بعد الطبيعة، «العلم الأول» أن موضوعه أعم الأمور. فإنه الوجود بغض النظر عن تخصيصه بشيء، أو تشخيصه. فعلم الأحياء يقتطع جزءًا معينًا من الوجود، فيدرسه من ناحية معينة، وهي ناحية الحياة. ولكن ما بعد الطبيعة لا يتقيد بجزء، ولا بناحية معينة. بل يدرس الوجود بذاته، أو الوجود المطلق الوجود المجرَّد، أو الوجود بما هو وجود، أو الوجود الخالص، أو الوجود بغضِّ النظر عما يتمثَّل فيه من موجودات. سمه بما شئت. فكل العبارات تشير إلى المعنى نفسه.
2: الحكمة. ولكن السائد أن طالب العلم لا يدرس هذا العلم الأول إلا في نهاية سلة التعليم. فهو الأول من الناحية المنطقية، ولكنه الأخير من الناحية الوضعية أي الوضع التعليمي. فسماه أرسطاطاليس بالحكمة. وهذا هو المراد بالحكمة. قصد بها أن جميع العلوم تسعى إليه، وترجع.
3: اللاهوت. وقد درس أرسطو طبيعة «الإله» على حسب رؤيته للإله في هذه المباحث، فسماها باللاهوت أيضًا. ولكن يفضل كثير من الفلاسفة أن يستبدل بكلمة الإله كلمة المطلق توخيًا للدقة في المراد وتجنبًا لاختلاط مفهوم الإله عند أرسطو بمفهوم الناس. فإن فكرة الإله أو الواجب الوجود عند الفلاسفة تختلف اختلافًا جذريًّا عما تعهده الأديان. وهي فكرية لحمتها وسداها الاضطرار العقلي.
المبحث الثاني: نقد ما بعد الطبيعة بالمعنى الأرسطي:
تأتي الوضعية المنطقية هنا متسلحة بمنشار ميزانها للتحقق من المعنوية، وتحاول أن تنشر به جسد ما بعد الطبيعة. فتقرر أن هذا الفن يدرس من الموضوع ما لا يكون جزئيًّا، ولا تستطيع أن تلمسه وتشاهد، فلا يخضع للتجربة الحسية. ثم الوجود بما هو هو أو الوجود المجرد أو الوجود الخالص كذلك ليس من العلاقات التي لا يلزم فيها الوجود الخارجي، وإنما يلزم فيها الاتساق المنطقي. فهذا الفن بأساسه خلو من المعنى. أعود وأقول: «خلو من المعنى»، ولم أقل: «هو كاذب». فإنك تحكم على شيء بالصدق والكذب بعدما كان حاويًا لمعنى، ولكن أنى لك أن تحكم على شيء، وليس له عند التحقيق معنى. فما بعد الطبيعة – في شريعة الوضعية المنطقية – قضاياه جوفاء خالية من معنى. هي عدم المعقولية.
وكذلك يدرس هذا العلم «الذات». ولكن ماذا يقصد بالذات؟ هل لمسنا في حياتنا شيئًا يسمى بالذات أو رأيناها تحت المجهر؟ كلا. بل رأينا زيدًا أو بكرًا أو عمرًا. فالذات عند التحقيق ليست إلا عبارة عن الوجود أخرى. فيعود الكلام إلى الوجود، وينسحب عليه ما ينحسب على الذات. فإنا لم نشاهد الوجود. وإنما وقع في تجربتنا الحسية موجود معين مشخص مشار إليه. فكلمة الوجود أيضًا جوفاء شاغرة من معنى.
فلا فرق بين كلمة الذات ورمز «أ». وسواء أن أقول: «كل شيء له ذات ووجود» و«كل شيء له أ وب» فهاتان الكلمتان «الذات» و«الوجود» مثل ما يعرف في الرياضيات بالمتغيرات التي ليس لها مدلول ثابت، ولكن المتكلم أو المقبل على حل المسئلة الرياضية بالمعادلات يصوغ الرموز صياغة عابرة، ويعزو إليها معاني عزوًا عارضًا، ما إن ينتهي من الحل إلا تتلاشى الصياغة والعزو، ولا يعتد بتلك الصياغة والعزو والدلالة إلا في مساحة تلك الصفحة التي تحتوي على الحل، أما خارجها فهي نكر.
فالكلام ذو المعنى ما كان لدى المتكلم والمخاطب وسيلة لتحقيقه.
المبحث الثالث: عبارات ما بعد الطبيعة لا هي تحليلية ولا هي تركيبية:
لقد درسنا في الفصل الماضي «وسيلة التحقق من القضية ذات المعنى» ولنأت قضايا ما بعد الطبيعة ولنخبرها بها!
هل قضايا ما بعد الطبيعة من باب التحليل؟ كلا. فإن أصحابها لا يرتضون بها عبارات تحليلية من باب تحصيل الحاصل. فإنها لو كانت مجرد مصطلحات، لساغ لغيرهم أن يصطلحوا على شيء آخر عشوائيًّا. بل هم يدعون فيها شيئًا يتعلق بالعالم الذي يقع خارج أذهانهم وأفكارهم. بل يعلنون حقائق في زعمهم. فهي إذن عبارات تركيبية.
ولكن مهلًا! هل يمكن أن ندنو من لوحة الطبيعة، وطابقناها بمحتوى عبارات ما بعد الطبيعة؟ كلا.
والمفروض في منطقة الوضيعة المنطقية أن القضايا ذات المعنى نوعان، لا ثالث لهما، إما أن تكون من باب تحصيل الحاصل وإما أن تكون ما تحققه التجربة.
فما بعد الطبيعة مرفوض منبوذ ممجوج.
المبحث الرابع: تعريف ما بعد الطبيعة الذي ترفضه الوضعية المنطقية.
قضية ما بعد الطبيعة كل عبارة تزعم حقيقة، ولكنها عند التحقيق لا هي من باب تحصيل الحاصل، ولا هي من المعطيات الحسية. فهي خالية من معنى.
والمراد بما بعد الطبيعة في ساحة الوضعية المنطقية ما يبحث في أشياء، لا تقع تحت الحس لا فعلًا ولا إمكانًا؛ لأنها أشياء بحكم تعريفها لا يمكن أن تدرك بحاسة من الحواس. فلنعلم أن ما بعد الطبيعة في هذا السياق أوسع مما هو فرع من فروع الفلسفة مما نسب إلى أرسطاطاليس.
المبحث الخامس: قضايا ما بعد الطبيعة من المستحيل المنطقي:
ولنأت رفض ما بعد الطبيعة من زاوية أخرى، ولكن نقدم له مقدمة قصيرة:.
الاستحالة ثلاثة أنواع:
1: الاستحالة الفنية للشيء وهي التي نحكم بها نظرًا إلى وضعنا اليوم وبحكم الأدوات المتاحة لنا، ولكن يمكن أن أقدر عليه في الغد بعدما أحصل على الأدوات اللازمة. من هذا القبيل الطيران إلى القمر والسير بسرعة ألف ميل في الساعة على وجه الأرض.
2: الاستحالة التجريبية وهي التي تنتج من تناقض قانون من قوانين الطبيعة. فيستحيل – مثلًا – أن يوضع الثلج في ماء مغلى، ولا يذوب. فقانون الطبيعة يقتضي أن الثلج حينما يتعرض لحرارة شديدة، يذوب ذوبانًا. ومستحيل ألا يكون ذلك. ويلاحظ أن القانون الطبيعي نصل إليه بعد المشاهدة والتجربة، نسجلهما، ومن الممكن أن نشاهد من ظواهر الطبيعة فيما استقبل من الزمان ما نلفيه على غير ما ألفيناه وصغنا من جرائه القانون.
3: الاستحالة المنطقية هي اجتماع النقيضين. مثل شعوري بوجع ضرس غيري وأنا غير وجع. فإذا شعر بوجع، فأنا وجع البتة، وإذا لم أكن أنا وجعًا، لم أشعر به.
فما كان مستحيلًا منطقيًّا، استحال فنيًّا وتجريبيًّا أيضًا. أما الاستحالة الفنية والاستحالة التجريبية فلا تستلزمان الاستحالة المنطقية. وكذلك الاستحالة الفنية لا تستلزم الاستحالة التجريبية.
يقرر أصحاب الوضعية المنطقية أن القول لا يقبل إذا كان مستحيلًا منطقيًّا تحققه على ميزان المعنوية. وإذا كانت العقبة هي الفنية أو التجريبية، فهي غير مانعة من أن نرحب بالجملة في أرض الوضعية المنطقية. فقولنا: «إن على القمر في وجهه غير المواجه للأرض جبالًا» مقبول وإن استحال فنيًّا بما ليس في أيدينا الآن ما نصل عليه إلى ذلك الوجه من القمر، ولكنه يمكن تحققه بعدما تطورنا تقنية وآلة.
وقولنا: «إن فلان دخل نارًا، فلم يحترق بها» وإن استحال تجريبيًّا بما أن معرفتنا بالطبيعة تعزف عن قبول هذا القول، ولكنه لم يستحل منطقيًّا بما كان في وسعنا أن نعرف نوع الخبرة الحسية التي يمكن للمشاهد أن يمارسها إذا وقف الوقفة التي تمكنه من المشاهدة وليس هنالك تناقض منطقي.
أما بعد فإن عمائد الوضعية المنطقية يقررون أن قضايا ما بعد الطبيعة من نوع المستحيل المنطقي. فإن معنى القضية ما يحتمل الصدق والكذب، فلا تكون الجملة قضية معتدًًا بها في ميزان الوضعية المنطقية ما لم يمكن تحقيقها صدقًا وكذبًا. ولكن صاحب هذه القضايا يدعي أنه لا يمكن أن نستوثق منها في مجال الحواس. فادعاؤه هذا يخرجها، من دائرة القضية. فآخر كلامه ينقض أوله. وهل هو إلا تناقض!
يتلخص منهج الوضعية المنطقية في نقد قضايا ما بعد الطبيعة في خطوتين: الأولى رد القضية وتحليلها إلى قضايا أولية مما يمكن تحقيقه مباشرة، والثانية إبانة أن قضية ما بعد الطبيعة عند الوصول إلى أغوارها عبر مركب التحليل ما هي إلا خطأ في التعبير. فهي غير ذات معنى.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست