كُلّ ما أريده أن أعيش بكرامة، هي كلمات ردّدها محمّد لكال قبل طرده من فرنسا منذ أسابيع، نحو موطنه الأمّ الجزائر. كان يعيش محمّد لكال في فرنسا بطريقة غير شرعيّة، ويعمل فيها بستانيًّا في إحدى كنائس مدينة «ليل» غرب العاصمة باريس. عُرف عنه حُسن الخلق واندماجه في المجتمع الفرنسي، إلى أن أُلقي القبض عليه بداية شهر أغسطس (آب) الماضي. لم تشفع له موجة التعاطف التي حظي بها من الطبقة السياسيّة المُمثل في الأحزاب اليساريّة، أمام وكيل الجمهورية الذي أمر بترحيله إلى بلده الجزائر، حيث يُناضل إِخوته من أجل استرداد حقوقهم التي سُلبت منهم لعقود من الزمن.
ما قصة محمّد لكال إلا غيض من فيض حالات مشابهة. البعض منها يُرّحل أصحابها مكبَّلين كالمجرمين، دون أن يُسمع لقصصهم همسًا، ومنهم من يوضع على رأسه خوذة ملاكمة لمنعه من الكلام حتى لا يزعج بشتائمه وصراخه من في الطائرة، فتُقيم من أجلهم بعض الجمعيّات الحقوقيّة الدُنيا وتقعدها، ثم تنتهي قِصصهم في سلّة النسيان.
في كل مرّة أقف فيها أمام حالة مشابهة أزداد حيرة. لماذا يصوّر هؤلاء بلدانهم على أنّها جهنّم حمراء، أو كبلدان تنخرها الحروب، مثلما هو حال سوريا أو اليمن؟ وهل فعلًا يحيون حياةً كريمةً بعيدًا عن ديارهم وذويهم؟ وما مفهوم الكرامة لديهم أصلًا؟
هي تساؤلات حاولْت مِرارًا وتِكرارًا إيجاد تفسير مقنع لها، ولكن باءت جل محاولاتي بالفشل، إلى تلك اللّحظة التي تّعرفت إلى أحد طُلّاب «العيشة الكريمة».
كان شابًا وسيمًا، ذا عينين زرقاوين، يلمعان من بعيد كالمصباح في الظّلام الحالك، الذي اتخذه خليلًا من كثرة المبيت في شوارع باريس، بحذو قطارات الأنفاق التي تتوقّف لساعة قليلة من اللّيل، حيث يتسابق فيها مُتشرِّدو المدينة للحصول على زاويّة تقيهم برد باريس العدائي.
لم يكن هذا الشاب كبقيّة المُتشرِّدين، فقد كان ينام سويعات قليلة ثم يستيّقظ باكرًا للحصول على قوت يومه أو على «الخبزة» مثلما يسمّيها الجزائريّون.
كانت النجوم لم تُفارق السماء بعد، عندما خرجت يومها لاجتياز امتحان مُهمّ في مساري الدراسي. فقابلت ذلك الشاب في مدخل محطّة المترو، حيث سبق بائعي السجائر – الذين يملؤون أزقّة مدينة الجن والملائكة- وهو يتلفّظ في وجه المارين بلهجة فرنسيّة مكسّرة: سيغرات سيغرات (سجائر، سجائر) من البلاد. اقتربت منه وحيّيته، فردّ عليّ بابتسامة مُشرقة، وكأنّه كان يريد أن يسوق لي عطرًا زكيًا، مثلما يفعلن موظفات محلاّت العطور الثمينة، ثم قدم إليّ علبة سجائر:
– كم تريد واحدة أم أكثر؟ إنّها محلّية الصُنع ورخيصة الثمن.
ابتسمت وسألته:
– هل هي كُلّ ما استطاعت الجزائر أن تصدّره إلى الدول الأجنبيّة؟ سجائر تقتل الناس، يبيعها مهاجرون لسدّ رمقهم بطريقة غير شرعية؟
طأطأ رأسه مليًّا، ثم صرخ في وجهي:
– الجزائر لا تصّدر علب السجائر المُصّنعة في أراضي غيرها فحسب، بل تصّدر عددًا هائلًا من أبنائها البررة إلى دول أجنبيّة، لتُداس كرامتهم بكل الطُرق العصريّة المُمكنة. هي بلاد تُنجبك لتُصَّدِّرك.
نظرت إلى ساعة يدي، فوجدتني أستبق موعد الامتحان بساعتين ونصف، فآثرت أن أخذ قليلًا من الوقت لأفهم بعض معالم الحياة من بائع السجائر «المُثقّف» الذي يبني مَقولاته على وزن أشعار محمود درويش.
سألته من جديد:
– بم أنّك ترى كرامتُك تداس، لماذا تبقى هنا؟ أليست بلادك أولى بك؟
ارتجف صوته وردّ بخجل: بلادي جحيم لا يُطاق، لا كرامة ولا قيمة للإنسان فيها. بائع السجائر هذا الذي تُشاهد أمامك، يحمل شهادة الهندسة المعلوماتية. اشتغلت مُهندسًا في بلدي لسنوات، فلم أُحصّل مبلغًا يوفِّر لي حتى لقمة العيش أو لأكتري شقّة صغيرة تضمن لي حياة زوجيّة، ها أنا تجاوزت عتبة الثلاثين ولا رُؤية لي سوى التسكّع في الأزقّة بحثًا عن مأوى.
وأرْدف بسرعة: أَتيت إلى هنا لأضمن لنفسي ولأمّي المريضة حياةً كريمةً، فوجدتني أبيع هذه السجائر الملعونة التي أدخلتني إلى جحيم الإهانات. هربت من جحيم لأقع في آخر، أشدُّ وطأة. لا أريد أن أقتل الإنسانيّة بسجائري هذه، بل أريدها أن تحيا حياةً سليمة.
أكمل جملته الأخيرة والعبرات تتناثر من عينيّه الجملتين، ولسانه يردِّد: نحن الشعب المُهان في الأرض. لا أرض تَهبنا كرامة الإنسانيّة.
ضربت على كتفه ثم غادرته دون أن أتفوه بكلمة، فكلماته كانت كفيلة بأن تضع حدًّا لأسئلتي البائسة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست