هذا أقل ما بدأنا نفكر فيه، خاصة والوطن تزداد فيه المآسي والمعاناة والأزمات من وقت إلى آخر، مآسي الحرب الغاشمة التي استطاعت أن تحول حياة النعيم والعز إلى حياة مذلة تحكمها عوامل الحرمان والافتقار لمتطلبات ما هو أبسط في الحياة، حرب ظالمة دارت وما زالت في جغرافية وطن ممتد بحجم اليمن وبفعلها قطعت كل أنسجة اللحمة الوطنية، وأصبح الوطن مجرد اسم نتغنى به حين نحلم بالعودة المؤجلة إلى أحضانه، حلم راودنا طيلة فترات العيش على طوبوغرافيته بأمن وأمان وكرامة واستقرار، لا تفسده عوامل الحرب الداخلية وتدخلات القوى الأخرى، هذا ما كنا نحلم به حين كان الوطن في عنفوان ازدهاره.
إلى اليوم شهور عدة مرت والحرب ما زالت قائمة ومستمرة في كل بقعة أرض بين جماعات تجمعهم آمال السلطة وحب الثروة وحلم التوريث والتجبر، ولم تخلص بعد، وحدهم المواطنون من يتحملون أعبائها الثقيلة التي لا يكاد أحد أن يقوى على تحملها والصبر على تراكماته الرثة، تفاقمت المشكلة وزادت مآسيها وطفح كيل وصبر مواطن قدر له أن يكون واحدًا من الذين قذفت بهم الحرب إلى مرمى الصراع؛ ليكن هو أول ضحية لمجازفات الحرب العشوائية المنبوذة القائمة هنا وهناك. متحمل كل تبعاتها وأخطائها دون اكتراث أحد بمعاناته وصبره.
مواطن هجر مسكنه، وحرم من تعليم أبنائه وتطوير حاله، مواطن مرض ولم يلق علاجًا يتداوى به أطفاله وأسرته، مواطن يعاني الجوع ولم يلق من يطعمه حتى بفتات خبز، حتى من برد الشتاء لم ينفذ ولم يلق وسيلة تدفئة تقي جسده النحيل من عبثه وقساوته الأشد عنفوانًا، لقي حاله بعد وإن طالت الحرب منطقته وداره، نازح في وطنه وعلى أطراف مخيم أو مدرسة في ضواحي مدينته أو قريته، منسي يفتقر لأدنى متطلبات الحياة والعيش الكريم هو ومن كانت الحرب سبب لجمعهم في مآسيه من نوع واحد.
النزوح إجبار آخر ما فعله مواطنو اليمن السعيد؛ نتيجة اشتداد ضراوة الحرب وتخبطها من دون أخذ الحذر وتجنيب المدنيين العزل من كوارثها الجسيمة، كونها حربًا لا أهداف لها سوى تمزيق الوطن والمواطن، وتدمير ما خرج به طيلة خمسين عامًا من منجزات هشة، لكنها كانت كافية لإنجاز الخدمة على أفضل حال، لتتحول اليوم وبفعل ضربات أطراف الحرب بشقيها إلى ركام وأماكن أشباح ومرعى للكلاب المفترسة ومقالب لقمامة المارة. هذا أبسط ما خلفته الحرب في وطن فقير اقتصاديًا وشحيح ماديًا، ويعيش أغلب سكانه في أشغال محدودة قامت من جهد فردي وليس بمساعدة الدولة أو جماعات مساهمة في تحسين الأداء الاقتصادي للبلد، رغم العدم إلا أنه كان في أحسن حال وهو يعيش على بساط الأمن والاستقرار بصرف النظر عن تداعيات الحكم وجبروت الحاكم آنذاك مقتنع بأن الوطن يظل المستقر الأول والحاضن لكل أبنائه، ولا تفكير بالرحيل عنه وعن دياره مهما كانت ظروف الواقع.
لكن سرعان ما بدأت هذه النظرة تتلاشى منذ أن حلت الحرب وعملت على تعطيل سبل العيش الكريم، وانعدم الاستقرار وإحلال كوابيس الرعب والخوف ساهم في تكوين القناعة لديه بأن فرصة الرحيل ممكنة، وأبواب الهجرة متعددة، ولا غنى عنها بما أنها ستعطي بصيصًا لحلم جديد لحياة مشرقة تعوضه عما تحمله من بؤس وكآبة وضيم وفقر وحرمان؛ لأن الحرب الدائرة وبوادر الواقع قد سدت كل نوافذ الأمل وانفراجها أو حتى الوصول إلى توافق يجمع ويرضي الكل وعلى سقف واحد أصبح صعبًا كون الجميع مكابرًا ومصرًا على أن الحرب وسيلة للانتصار.
مستحيل أن يحدث ذلك لأنهم ما زالوا يستمتعون بمعاناته وبؤسه واستخدامه كدروع وساحة تجارب لإظهار قوتهم وإمكانياتهم، فهم متشبثون بحوار طقطقة السلاح ودوي الانفجارات في كل بقعة من هذه المعمورة الطيبة، معمورة اليمن المجروح النازف على مر الدهر، يمن تم تجريفه وأبنائه إلى هلاك دائم يصعب تفادي خطره أو حتى محاولة الهروب منه؛ فالباقي في وطنه هو النازح واللاجئ في ديار من يملكون ضميرًا إنسانيًا حيًا، أما الناجي فهو المهاجر في أوطان المهجر البعيد، وهو من يختلج حرقة ويزداد معاناة لضياع وطنه، ومصير ما سيؤول إليه حال أسرته العالقة بين حلم العودة إلى أحضان وطن وبين الموت المجاني البطيء شتان بين الباقي في أرضه والمهاجر عنه.
الآخر -المهاجر- سيظل حبيس أحزانه وحنينه لدياره ومسقط رأسه ورائحة خبز أمه وخضرة ومياه وطنه، وسيظل على استمرار في إظهار حنينه عبر جمل مفعمة بحس ذواق يمزج الحزن والحسرة في قالب واحد عبر إطلالة فيسبوكية فيها الصورة الجميلة القديمة لديار وطنه القديم ونص ذات خاطرة يجسد من خلالها كم هو عاشق للحظة اللقاء مع وطن مسلوب وضائع في متاهات الحرب والمعاناة التي لم تخلص بعد.
نازح يتألم جوعًا وعوزًا وفاقة وحالة تقشف على مدار يومياته منتظرًا رحمة الرب لإخراجه من أزمة طاحنة استطاعت أن تقضي على الأخضر واليابس، ومهاجر مسكين ما زال يعيش اللحظة من حين وإن ترك وطنه لحلم العودة المؤجلة وهو لا يعلم بأن الوطن الذي فارقة عند رحيله لأول مرة لم يكن كما هو عليه، فالتغير السلبي قد طرأ وغير كل ملامحه الجميلة، وأن القاطن فيه قد اعتبر الهجرة والرحيل عنه فرصة ممكنة ولو بعد حين، والنزوح مهمة قد صارت في أول لحظة من لحظات بدء الحرب والدخول في صراع أبدي مع أزماته المتلاحقة من وقت إلى آخر.
ثمة تعقيدات مكنت من إطالة الحرب واستمرارها، فالجميع يراهن بأنها وسيلة لتحقيق الأهداف التي يرنو لتحقيقها أطراف الصراع غير مبالين حجم المعاناة التي أرهقت كاهل المواطن الذي ينتظر انفراجة لأزمة بلده وتخفيف من ما يعانيه.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست