الجيل القرآني جيل صعد السماء ودانت له قمم الجبال بعد أن كان يقتات بين سفوح الجبال وفي شعاب الوديان، هذا الجيل الذي تربى على هدي النبي العدنان الذي تمثل القرآن الكريم فيه، فكان قرآنًا يمشي على الأرض، فكل أمر ونهي، وكل فعل وامتناع تمثل أمام هذا الجيل في النبي محمد، فتروي أم المؤمنين عائشة بنت الصديق، رضوان الله عليهما، واصفة النبي محمد «كان خلقه القرآن»، ويقول الله، عز وجل، «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ».
هذا الجيل صَعُب تكراره عددًا ونوعًا في الأجيال المتعاقبة من بعده، فهذا الصفاء والنقاء في القلوب، وحب الآخرة والزهد في الدنيا، وَأَخْذ المُسببات الدنيوية والتوكل على الله هل كان سببه وجود شخص النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم، بين ظَهْرَانيهم أم وجود القرآن وحديث الرسول محمد بينهم، هل أسلم عمر، رضي الله عنه، ورق قلبه للإسلام حينما رأى محمدًا في مكة أم حينما دخل على أخته واغتسل وقرأ قول الله عزوجل «طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى»، وهل أسلم حمزة بن عبد المطلب عم النبي وغيره حينما علم أن محمدًا يَدعي أنه نبي أم بعد أن سمع، واِستطعم ما اِستطعمه الوليد بن المغيرة حينما سمع القران فغرَّد الوليد قائلًا: «والله لقد سمعت من محمد آنفًا كلامًا ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإِنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لُمْثمِر، وإِنّ أَسْفَلَهُ لَمُغْدِقْ، وإِنّه لَيْعلو وما يُعْلى عليه».
لا ينكر فضل النبي وتربيته لهذا الجيل الطاهر إلا جاحد، ولكن هذا الدين لم ينزل من فوق سبع سماوات مِنْ أَجل جيل من البشر أو مجموعة معينة، ولكن هذا الدين أُنزل للعالمين حتى تقوم الساعة، ولو كان هذا الدين لا يقوم إلا بعنصر بشري محدد يكون نموذجًا بين الناس لكان من ذرية النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، النموذج، كما كان بين بني إسرائيل من ولد يعقوب، عليه السلام، نموذجًا من يعقوب يُقَوِّم بني إسرائيل إن ضَلُّوا، ولمَا خاطب أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، المسلمين بعد وفاة المصطفى، صلى الله عليه وسلم قائلًا: «أما بعد، فمن كان يعبد محمدًا فإن محمدًا، صلى الله عليه وآله وسلم، قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت»، ثم تلا: «وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ ۖ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ».
إذن هناك أسباب أخرى تجعل هذا الدين يكرر هذا الجيل في الأجيال المتعاقبة من بعده، تَكون كهذا الجيل الفريد النقي الذي لم يلوث قلبه وعقله بحضارات كانت قائمة في زمانه، فهناك الحضارة الرومانية، والإغريقية، والفارسية، وحضارة الصين، وحضارة الهند، وكانت الدنيا في ذاك الوقت مليئة بنظم الكلام، وفلسفة الحديث، وعلوم المنطق، وجمال الفنون، وقوانين الحياة المستمدة من تلك الحضارات، فلم يكن هناك فقر في العلم ولا الحضارة حولهم أجبر هذا الجيل أن يكون النبع المستقى منه هو القرآن، بل إن أفرادًا من الحضارات «التي كانت تتراقص لها الأسماع طربًا وتتصلب الأعين لها تَخيلًا حينما يحكى عن قصة من قصص تلك الحضارات» عاشوا وسط هذا الجيل، فلم نجد أنهم أَثَّروا في هذا الجيل بفساد عقيدتهم الآتية معهم، بل تأثروا بالنبع الصافي واستحدثوا حضارة تساقطت أمامها حضارات الفرس والروم في زمن قصير لم يحدث عبر الزمان قبلهم ولا بعدهم.
إنه القرآن النبع الصافي الذي كَوَّن به النبي محمد جيلًا خالص القلب، خالص العقل، خالص التصور، خالص التكوين، خالص الشعور، لكن النبي محمد لم يعزل هذا المجتمع عن الأفكار البَنَّاءة الآتية من قبل الحضارات الأخرى التي تُعين الأمة على النهوض الدنيوي دون المساس بالعقيدة المنقَّاة من لوث المحيط، فها هو سلمان الفارسي يقترح اقتراحًا، لم يكن لدى العرب علم به من قبل، بحفر خندق حول المدينة، وَيُقره النبي محمد، بل يشارك بنفسه في هذه الفكرة المُستقاة من الحضارة المجوسية، فلولا هذه الفكرة بعد تقدير الله لهلكت الفئة المؤمنة ولما كان للإسلام أثرًا.
هذا القرآن نزل من السماء تحديًا للعرب وإعجازًا لفصاحة لسانهم، لكن الفرق بين هذا الجيل القرآني والوليد بن المغيرة ومن حام حوله أنهم كانوا يتلقون القرآن مع حلاوة كلامه وأثره في زلزلة القلوب، على أنه مصدر من التعليمات الربانية التي يجب على المسلم أن يطبقها في حياته اليومية، فالقرآن لم ينزل جملة واحدة على النبي، وإنما نزل طبقًا للحياة اليومية والعملية والمشكلات ااإجتماعية، ونمو الأفكار وتصوراتها.
يتبع…
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست