حين تسألني عن المسافة بين القاهرة والإسكندرية هل هي ٢٠ كم أم ١٠٠ كم أم ٢٠٠ كم، هل يمكنك حينها أن تتَّهمني بالتطرُّف حين أخبرك أنها ٢٠٠ كم؟!
هل المسلمون الملتزمون متطرِّفون أو متشدِّدون حقًّا؟!
حسنًا، لنختبر الأمر، حين تسأل أحدهم في حُكمٍ ما، وليكن مثلًا في جواز مساعدة الكافرين في قتال المسلمين وإعانتهم عليهم، هل يجوز؟ حين تبحث في مصادر التشريع في الدين الإسلامي تجد أنه لا يجوز ذلك مطلقًا؛ فهل حين يخبرك مسلمٌ بعدم جواز ذلك يُعَدُّ متطرفًا؟!
حين تسأل عن ضوابط زِيِّ المرأة المسلمة ويخبرك أحدهم أنه لا يجوز لها مطلقًا كشف شعرها لأجنبي، ولا يجوز لها أن ترتديَ من الثياب ما يصف جسدها… إلى آخر ضوابط الزِّيِّ المعروفة، ولا يجوز لها أن تتزين إلا لزوجها وفي المنزل، هل يكون متشددًا؟!
لا يمكن للمسلم أن يخبرك بأن المسافة بين القاهرة والإسكندرية ١٠٠ كم لكي يكون وسطيًّا (كيوت)؛ لأنه يستند في إجابته إلى مصادر محددة بعينها هي التي تُعَدُّ الفَيصل بين الصواب والخطأ، ولا يمكنه تجاوزها أو التغاضي عنها من باب التوسُّط.
ومن ثَمَّ، حين يخبرك حكمًا شرعيًّا يبدو لك متشددًا، فعليك أن تدرس الأمر: هل ما قاله صحيح بالفعل؟ هل توجد آراء أخرى؟ وما مدى وجاهتها علميًّا؟
المتشدد يخبرك برأيٍ يميل هو إليه ويُخفي عنك عمدًا آراءً أخرى تُخالف هواه، كمن يخبرك بوجوب تغطية وجه المرأة مطلقًا، دون أن يخبرك أن الخلاف بين العلماء في هذا الأمر سائغ ومقبول.
أثناء نقاشات كثيرة مع أعمارٍ وثقافاتٍ متعددة، تلمس حرصًا حقيقيًّا – في الغالب- على ضرورة الانصياع لحُكم الله، واتِّخاذ القرارات بِناءً على معيار الحلال والحرام، ولكن تنبع المشكلة في الأصل بسبب النقص المعرفي الشديد بكيفية تحديد الحلال والحرام؛ فيصبح لكلِّ واحدٍ حلالُه الخاص وحرامُه الخاص وقواعدُه الخاصة التي يستقرئ ويستنتج بِناءً عليها.
من الأسباب الرئيسة في رمْي كثيرٍ من المسلمين بالتشدُّد: الظن الخاطئ لدى كثيرٍ من الناس أن الوصول إلى الحُكم السليم صعب ويكاد يكون مستحيلًا، وأن الآراء في كل شيءٍ متعددة بشكلٍ يُضلِّل المسلم العادي، وجهل البعض بمصادر التشريع وترتيبها، والمعروفات من الدين بالضرورة، وحتى بالقواعد الكلية الأساسية المعروفة بداهةً.
كم شخصًا مسلمًا حولك يتعامل مع الحياة كغرفة اختبار؟! وأن: «الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى»؟!
كم شخصًا حين يسمع قول المؤذِّن: «الله أكبر»، يُدرك معنى كلمة «أكبر» وكونها على وزن أفعل، وأنها اسم تفضيل غير مُعرَّف يعني أنه ليس أكبرَ من الله شيء أو أحد؟!
كم شخصًا تلاحظ في أفعاله أنه مُوقِن أنه سيموت يومًا ما وأنه سيحاسَب؟!
كم شخصًا يبدو في أفعاله أنه مأمور بتوخِّي الحلال والحرام؟! وكم شخصًا يعرف كيف يفعل ذلك؟!
هذه هي المشكلة؛ معرفتنا الشرعية ضحلة للغاية في الغالب؛ لذلك أغلب الأحكام الشرعية العادية المتفَق عليها بالإجماع تُعَدُّ بالنسبة إلى الكثير تشدُّدًا وتزمُّتًا شديدين، ببساطةٍ لأنهم لا يملكون أي أدوات تُمكِّنهم من التفنيد أو حتى البحث.
على البعض أن يحملوا هذا الهَم: «ما الغرض من هذا الدين؟» و«كيف يتعلَّم الناس أن يتعلَّموا دينهم؟».
على البعض أن يحملوا هَمَّ أن يَكُفَّ الناس عن جعْل الدين عادةً اكتسبوها بالوراثة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست