قبل الغوص والحديث حول «الإنستجرام»، هذا «البوم التكنولوجي» الذي أصبح مثل الهواء الذي يتنفسه البشر في وقتنا الراهن، دعونا نسلّط الضوء على مسألة في غاية الأهمية حول ما يسمى مبدأ الخصوصية بشكل عام. منذ سنوات وحتى قبل انتشار منصة «الإنستجرام»، أضحت الخصوصية مصطلحًا متهرئًا، نادرًا أو حتى مثيرًا للسخرية، وأحيانًا الاشمئزاز عند شريحة واسعة من الناس، وخاصة بين صفوف الشباب، حتى أن الأمر أصبح يجلب أنظار المستثمرين وحيتان المال في مجال الإعلام.

بناء عليه، أصبحنا نشاهد نوعية من البرامج الشهيرة التي تقوم أساسًا على نشر الضيوف لغسيل بعضهما البعض، حتى إنهم يتجرأون أحيانًا على التجاهر والحديث حول أدق خصوصياتهم التي لا يمكن أن تتجاوز حيطان غرفة نومهما. بعد أن تراجعت سطوة التلفاز على المتابعين، وأصبح من جهاز من حقبة الزمن الجميل عند الكثيرين، أتى دور المنصات التكنولوجية خاصة «الإنستجرام» و«فيسبوك» و«سناب تشات» التي نسفت ما تبقى من مفهموم الخصوصية عند العامة. لحسن الحظ أو لسوئه، أستطيع اليوم بمجرد كبسة زر أن أعرف كل ما أريد عن جارتي التي لم أطرق بابها يومًا، ماذا أكلت، أين أمضت عيد الحب رفقة زوجها، وحتى ألوان وسائد غرفة نومها. ألا يمكن أن نعتبر في ظل هذا الوضع أن التكنولوجيا أضحت مجرد لعنة أضاعت بوصلة كونها وسيلة للترفيه عن النفس أوقات الفراغ؟

بطبيعة الحال، اهتم علم النفس بدراسة العلاقة المتشعبة بين الإنسان ومفهوم الخصوصية، دراسة يمكن أن تكشف لنا الكثير عن هذه المسألة وتؤكد أن انهيار الخصوصية ليس مجرد نشر صور أو أخبار، بل تتجاوز ذلك لتصبح مرآةً تفسّر شخصية ونفسية الشخص.

يقول جون سولر، أستاذ علم نفس في جماعة رايدر في نيوجيرسي ومؤلف كتاب بعنوان «نفسية الفضاء الإلكتروني»: «نحن نحتاج إلى ذات عامة لنعيش العالم الاجتماعي الخاص بالأسرة والأصدقاء، وزملاء العمل والأقران، لكننا نحتاج أيضًا إلى ذات خاصة، أي إلى مساحة داخلية يمكننا فيها أن نتفكر ونعيش مع مشاعرنا وأفكارنا الخاصة بعيدًا عن أي تأثير خارجي». كما كرّس خيرة خبراء علم النفس جهودهم للقيام بالكثير من البحوث لدراسة سر تخلي الناس على خصوصيتهم في مواقع التواصل الاجتماعي.

في شأن ذي صلة، تحول «الإنستجرام» من مجرد منصة أو تطبيق ترفيهي إلى سوق حرة يستخدمها الكثير من الناس لجني الأموال، الكل تقريبًا يلهث وراء الحصول على أكبر عدد من المتابعين لحساباتهم. ولكن للسائل أن يسأل: ما هي البضاعة التي يعرضها مستخدمو «الإنستجرام» على المتابعين حتى تصبح حساباتهم مصدرًا للدخل؟ كيف يستثمرون حياتهم الخاصة ويتاجرون بها؟ مالفرق بين سوق العبيد قديمًا والآخر في حلته الحديثة؟ أيضًا، لماذا أصبح «الإنستجرام» أكبر الظواهر التي تبرز ما يسمى متلازمة التظاهر بالسعادة، فالكل يعيش أحلى أيام حياته وأسعدها؟ غير أن بواطن الأمور دائمًا تكون عكس ظواهرها.

يمكنك أن تلاحظ أنماط التجارة المختلفة بين مدمني «الإنستجرام»، كل مستخدم يعرض بضاعة مغايرة عن الآخر حتى تجلب أنظار المتابعين الذين قد يرون علامات إعجابهم وتعليقاتهم بمثابة دولارات متناثرة يجب الظفر بها.

في هذا الصدد، وجد الكثير من الآباء في أطفالهم فريسة قيّمة لجلب أكبر عدد من المتابعين، فتراهم يتفننون، بل يتسابقون في تصوير مقاطع فيديو يصور أطفالهم كيف يتحدثون بطريقة طريفة أو أن تتحول طفلة لم تتجاوز العاشرة من سنها إلى خبيرة تجميل لتعلم المتابعات أسس وضع الماكياج. علاوة على ذلك، تنشر بعض شهيرات «الإنستجرام» صور طفلها يرتدي إحدى الماركات، ثم تضع اسم العلامة والثمن.

ولعل السؤال الذي يطرح نفسه، لماذا يصر بعض الآباء على تحويل أطفالهم إلى سلع تسلي المتابعين وتثير إعجابهم؟ والأتعس من ذلك، لماذا نصر على اغتيال طفولة هذا الجيل الذي فتح أعينه على التكنولوجيا المتطورة ومواقع التواصل الاجتماعي، ألا يستحق الطفل أن نعمل على بناء شخصيته بشكل سوي وهادئ ونحفظ كرامته وخصوصيته حتى يصبح ناضجًا ويقرر بنفسه، أما إذا كان يريد أن يقحم نفسه في هذا العالم الافتراضي المجنون أم لا.

كما نعلم جميعًا أن الكثير منا يعتقد أن تحرر المجتمع العربي الذي نعيش بكنفه ينبغي أن يكون متطابقًا مع المجتمعات الغربية، أو سيكون تحررًا منقوصًا لا يفي بالغرض. لذلك، نستطيع القول أن الكثير من الكثير من الفتيات ليس لديهن ما يقدمنه كبضاعة في «الإنستجرام» سوى أجسادهن وفضائحهن التي يتعمدن التصريح بها بأنفسهن لإحداث فرقعة تجلب أكبر عدد من المتابعين.

ولعل الكثير من الصور الفاضحة ومقاطع الفيديو التي يتم نشرها على هذه المنصة لا يمكننا اعتبارها سوى نوع من الدعارة «المقننة» التي لا يعاقب عليها القانون. والجدير بالذكر أننا لا نلعب دور الشيخ أو القس من خلال التطرق إلى هذه النقطة، ولكننا نشير تحديدًا إلى نوع من البضائع التي تشترى وتباع على «الإنستجرام»، وما أبشع أن يشيئ الإنسان نفسه من أجل حفنة من الدولارات.

في الواقع دائمًا ما ينتابني شعور أن «الإنستجرام» أفضل مرآة يمكن أن تعكس الزمن الذي نعيشه بكل دقة وحرفية دون الحاجة إلى الكثير من الكلام والبحوث والدراسات المطولة. عالم يقدس المادية، زمن لا تقاس فيه قيمة الإنسان بمبادئه ولا وزنه العلمي والثقافي، بل نوعية السيارة التي يقودها وينشر صورها على «الإنستجرام» والملابس التي يرتديها والأماكن التي يزورها والأشخاص الذين يجالسهم ويلتقط معهم الصور هم من يحددون قيمة هذا الإنسان التائه. في خضم هذه المادية المتوحشة، من الطبيعي من أن تصبح الخصوصية مصطلحًا يتلاشى عبر السنين، وأن يروّج الإنسان لنفسه ولعائلته وبيته عبر مواقع التواصل الاجتماعي. يمكننا القول إن أشكال العبودية قد تغيرت على مر التاريخ، ولكن جوهرها ومفهومها بقي نفسه لم يتغيّر أبدًا.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

تحميل المزيد