يعد فتح القسطنطينية من الأحداث المؤثرة في التاريخ، بل يجعلها الكثير من المؤرخين من المعارك الفاصلة في أحداث التاريخ الحديث، ظلت أحداث الفتح لهذه المدينة العريقة بالنسب للأوروبيين لها تأثير في داخلهم، وظهر هذا التأثير في كتابات المؤرخين الغربيين، وبدأت روح الحقد والعداء والافتراء تظهر في كثير من هذه الكتابات؛ لأن القسطنطينية ليست بمدينة عادية، بل هي حلقة الوصل بين الشرق والغرب، وتقع على ضفاف مضائق مائية مهمة وتجارية كالبسفور والدردنيل، فضلًا عن كونها مركز المسيحية وكنيستها في الشرق، إلى أن جاء السلطان محمد الفاتح في عام 1453م واستطاع فتح المدينة، وحول أعظم معالمها وهي كنيسة أيا صوفيا إلى مسجد، وصدع بالأذان في كل أرجاء المدينة، ونهى حكم البيزنطيين في الشرق.
ظل الفتح الحدث المؤثر في كتابات وخيالات أهل الفكر من الغرب، وبدأت الافتراءات تنال من السلطان الفاتح وفتحه للقسطنطينية، ولعل أعظم تلك الافتراءات التي ألصقها هؤلاء الحاقدون، أن السلطان الفاتح أعطى لجنوده مهلة ثلاثة أيام يستبيحون خلالها العاصمة البيزنطية «القسطنطينية» يقتلون، وينهبون، ويسلبون، ويعتدون على الأعراض كيفما يشاؤون.
ومن العجيب أن الكثير من المؤرخين الأجانب دعموا ونشروا هذا الافتراء، وأذكر على سبيل المثال المؤرخ الإنجليزي «إدوارد شيبرد كريسي»، الذي زعم وذكر في كتابه «تاريخ العثمانيين الأتراك» إذ قال: «إن السلطان الفاتح، قد خطب في جنده قبيل الهجوم الأخير على القسطنطينية قائلًا – على حد زعم المؤرخ-: «إنني أبيح لكم كل شيء في المدينة، ولا أريدكم أن تتركوا فيها شيئًا فيه حياة، ما عدا الأبنية والأرض فقط…»، وأيضًا في كتاب «أحداث شهيرة في التاريخ» الذي نشرته مؤسسة فرانكلين، المؤسسة الأمريكية البارعة في دس السم وخصوصًا تجاه المسلمين، نشر مؤلفا هذا الكتاب «صموئيل ووليام ويت»، نشروا كلامًا مزعومًا وزعموا أن السلطان الفاتح ألقاه في خطبته الشهيرة، إذ مختصر الكلام أن المدينة مملوءة بالثروات والكنوز، فأنا أجمعكم ليس من أجل نشر الحماسة بينكم، بل لتنهبوا مدينة الكنوز وقلب العالم، المدينة التي وقفت أعوامًا طويلة في وجه الأتراك، وعملت على ضعف الإسلام، واتحدت مع أعدائه.
زاد المؤرخ الإنجليزي شيبرد في الافتراء على السلطان الفاتح، إذ إن السلطان عندما دخل المدينة أعد احتفالًا في قصر المدينة الخاص بالإمبراطور المقتول، وأكثر السلطان من شرب الخمر، ثم أمر بإحضار ابن«لوقاس الناطوري» وزير الإمبراطور المقتول قسطنطين، وذلك من أجل عمل الفاحشة بالصبي، فرفض الولد ووالده، فغضب السلطان وأمر بقتل الوزير وابنه وجميع أفراد عائلته، بل لم يقف الحقد والافتراء عند هؤلاء المؤرخين، بل انساقت الموسوعة الأمريكية وطبعت عام 1980م في أحدى إصداراتها، وزعمت أن السلطان الفاتح استرقق غالبية النصارى في القسطنطينية، وساقهم إلى أسواق الرقيق في مدينة أدرنه، حيث جرى بيعهم.
ومن وجهة نظري أن هؤلاء المؤرخين استندوا في افترائهم على السلطان الفاتح والفتح إلى عرف كان سائدًا في حروب تلك العصور، يقضي هذا العرف بأنه أيما مدينة يطلب منها الاستسلام فترفض، فإن من حق فاتحها أن يستبيحها ثلاثة أيام بلياليها كيفما يشاء، تأديبًا لها لرفضها، فظنوا هؤلاء أن أخلاق الإسلام تؤيد هذا المبدأ الذي صنعوه، وإذا عادوا بالذاكرة سيجدون الفرق بين حروب المسلمين ومبادئهم وعدلهم في فترة العصور الوسطى، وبين الرومان والفرس، سيعرفون كيف دخل الناس أفواجًا في الإسلام، ليظلهم عدل الإسلام وليرحمهم من ظلم وسيوف الرومان والفرس التي لا ترحم.
أرأيتم الحقد الغربي حين تعمى الأبصار، ويزين الصدأ على القلوب، فتتجرأ على الافتراء بمثل هذه الأكاذيب التي لا يصدقها عقل، ولا يقبلها منطق، أرأيتم الأمانة العلمية كيف يبطل مفعولها حين يتعلق الأمر بالإسلام والمسلمين؟
وبعد عرض موجز من قائمة افتراءات طويلة نالت من الفتح والسلطان محمد الفاتح، يبقى هنا عرض الحقيقة، حقيقة السلطان الذي استقبل معركته الأخيرة بالصوم إلى الله تطهرًا وتقربًا، سلطان تعلم من الفاروق عمر، تعلم أننا أمة لا تنتصر بعدد أو عدة، تنتصر بطاعة وتقرب لله وتهزم بمعصية وبعد عن الله، بالقرب والطاعة يلين لهذه الأمة الحديد وتفتح لها الأمصار، وبالمعصية وانتشارها تذل ويسلط الله عليها كلاب الأرض حتى يعودوا إلى الله ودينهم، فكما قال ابن خلدون «العرب أقوام لا يصلحهم إلا الدين».
تبقى الحقيقة واضحة وتؤكد الكثير من الوثائق والمراسلات بين السلطان الفاتح والإمبراطور قسطنطين، التي يطلب فيها السلطان الفاتح منه الاستسلام في مرتين متتاليتين، إلا أن الإمبراطور البيزنطي رفض ومع ذلك لم يتبع السلطان الفاتح معه المبدأ السائد في هذا العصر، وهو استباحة المكان، إذ أرسل السلطان وزيره محمود باشا للإمبراطور قسطنطين مرتين، الأول في السادس من أبريل (نيسان) 1453م والثانية في الرابع عشر من مايو (أيار) 1453م، يطلب منه الاستسلام ويعطيه الأمان لجميع النصارى على أموالهم وأرواحهم وأعراضهم وعقيدتهم، لكن الإمبراطور قسطنطين أصر أمام ضغط مجلس حربه والكنيسة على رفض الاستسلام.
ففي يوم الاثنين الثامن والعشرين من مايو عام 1453م، ندب السلطان الفاتح جنده لصيام هذا اليوم تقربًا لله، واستعدادًا للهجوم النهائي الذي قرر أن يشنه في اليوم التالي، وما إن غابت شمس يوم الاثنين دعا السلطان جنوده، وخطب خطبته الأخيرة قبل بدء الهجوم النهائي، إذ ذكرها «سالم الرشيدي» في كتابه «محمد الفاتح»، إذ كان مختصرها ما يلي: «إذا أعاننا الله وفتح علينا القسطنطينية فيستحق فينا حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وسيكون من حظنا ما تضمنه الحديث «خير الجيش جيشها وخير الفاتح قائده»، فأبلغوا أبناءنا العساكر فردًا فردًا، أن الظفر العظيم الذي سنحرزه سيزيد الإسلام قدرًا وشرفًا، ويجب على الجميع أن يجعل تعاليم شريعتنا أمام عينيه، فلا أحد يخالف هذه التعاليم، ولتتجنبوا المساجد والمعابد ولا تمسوها بأذى، ولا تقربوا القساوسة والضعفاء والعجزة الذين لا يقاتلون… إلى آخر الخطبة.
ووفقًا لرواية المؤرخ التركي أحمد رفيق في كتابه «التاريخ العمومي الكبير» في الجزء السادس متحدثًا عن أحداث اليوم الأول لفتح القسطنطينية قال: «دخل الفاتح من باب المدافع (توب كابي) واتجه لكنيسة أيا صوفيا، فوجد أعدادًا كبيرة من النصارى الذين التجأوا إليها بعد السقوط، فطمأنهم على أرواحهم، ثم أمر بإحضار الوزير لوقاس وأكرمه وأهداه صولجان مرصعًا بالجواهر، وطلب منه أن يشرف بنفسه على دفن الإمبراطور حسب التقاليد الإمبراطورية والكنيسة، وأعلمه السلطان أنه بإمكان جميع الذين فروا من المدينة أن يعودوا إليها خلال شهرين، ومن تأخر عن العودة بعد ذلك تصبح ممتلكاته من حق الدولة العثمانية».
ولعل القائل يقول إن هذه الأدلة نابعة من مؤرخين مسلمين وأتراك، لكن هناك أدلة من النصارى تكذب ما زعمه المغرضون من أن العثمانيين ارتكبوا المجازر واستباحوا الحرمات والأعراض عند دخولهم القسطنطينية، يقول بأول ويتك في كتابه «تأسيس الإمبراطورية العثمانية»: «»كان النصارى الأرثوذكس يكرهون بشدة أبناء دينهم من النصارى الكاثوليك، وخاصة النصارى من أهل جنوه، بسبب ما كانوا يلاقونه منهم من استغلال واضطهاد، ولذلك انتشر بين النصارى الأرثوذكس شعار يقول: «إذا كان لا بد من الوقوع تحت سيطرة طرف آخر فإننا نفضل أن نقع تحت سيطرة الأتراك المسلمين».
وينقل أمير البيان عن المؤرخ الفرنسي «كارادوكو» في كتابه «مفكرو الإسلام»، أن محمد الفاتح راعى شعور النصارى، وعين لهم بطريركًا يدعى «أجناديوس» ليراعي أمورهم الدينية، واستقبله الفاتح بترحاب وكرم، وأيضًا لم يمح السلطان العديد من صور الفسيفساء التي ملأت جدران الكنيسة، وكان بإمكانه أن يفعل، ولكن أمر بتغطيتها، لأن الإسلام يحرم الصور.
ولعل تأتي شهادة الكاتبة الأمريكية ماري ملز في كتابها «سلاطين العثمانيين الخمسة» أهمية خاصة، إذ إنها تكاد تكون من أشد المؤرخين حقدًا على الدولة العثمانية، ولكنها قالت في حق السلطان الفاتح : «في الواقع أن السلطان الفاتح أظهر تسامحًا عظيمًا مع المسيحيين، وكان لكل ملة من المسيحيين رئيس ديني لا يخاطب إلا حكومة السلطان ذاتها مباشرة، ولكل ملة من هذه الملل مدارسها ولغتها ولا يتدخل أحد في ماليتها»، وأيضًا يشهد المستشرق الألماني بروكلمان في كتابه «تاريخ الشعوب الإسلامية»، أن السلطان الفاتح عند دخوله المدينة أمر جنوده بوقف القتال.
وفي النهاية أكتفي بهذه الشهادات القليلة التي ذكرتها، ولكن ينبغي القول إن السلطان الفاتح لم يُظهر ما أظهره من تسامح إلا بدافع التزامه الصادق بالإسلام وتعاليمه، وتأسيًا بالرسول الكريم، الذي امتلأت صحائف التاريخ بتسامحه الكريم مع أعدائه.
المراجع:
– دوارد شيبرد كريسي: تاريخ العثمانيين الأتراك.
– صموئيل ووليام ويت: أحداث شهيرة في التاريخ، مؤسسة فرانكلين.
– سالم الرشيدي: محمد الفاتح.
– أحمد رفيق: التاريخ العمومي الكبير، الجزء السادس.
– بأول ويتك: تأسيس الإمبراطورية العثمانية.
– أمير البيان: مفكرو الإسلام.
– ماري ملز: سلاطين العثمانيين الخمسة.
– بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية.
زياد أبو غنيمة: جوانب مضيئة من تاريخ العثمانيين الأتراك
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست