(1)
“الموت شيء مرعب ليس في حد ذاته، ولكن بما يتركه للأحياء من بقايا حياة الراحلين”.
محمد المخزنجي- أوتار الماء
(2)
في خريف العام 2000 التقيت الشاعر السوداني الليبي الذي رحل نهاية الشهر الماضي محمد الفيتوري في فندق الشيراتون بالقاهرة، كانت معي الروائية المقيمة في فرنسا هدى الزين رئيسة تحرير مجلة “وهج باريس” الصادرة في فرنسا باللغتين العربية والفرنسية، كنت مهتمًا بشكل شديد بالفيتوري شاعر أفريقيا العبقري الذي عاش متنقلًا من بقعة إلى أخرى، كان وقتئذ ديبلوماسيًّا لدى نظام القذافي، كنت دومًا أتساءل: ما الذي يجعل شاعرًا سودانيًّا يضج شعره بالنضال وبحرية أفريقيا، شاعرًا يمتلك شاعرية استثنائية بكل المقاييس أشعاره كانت ضمن مناهج الثانوية العامة المصرية في السبعينيات يعمل ديبلوماسيًّا لصالح طاغية ليبيا المجنون القذافي؟
عرفت بعد ذلك أن الفيتوري لا يشغل فقط منصبًا ديبلوماسيًّا في السفارة الليبية في المغرب وإنما بات مدججًا بسيارة فارهة وحقائب دبلوماسية وسيارات وسائقين، تزوج الرجل مغربية واستقر هناك، مستفيدًا من نظام القذافي لمدة تفوق 30 عامًا.
هرب الفيتوري شاعر أفريقيا من ديكتاتور السودان السابق جعفر النميري ليرتمي في أحضان الطاغية المجنون القذافي الذي منحه جوازًا ديبلوماسيًّا ومناصب تنوعت بين: مستشار ثقافي في سفارة ليبيا بإيطاليا ومستشار وسفير بالسفارة الليبية في لبنان، ومستشار للشؤون السياسية والإعلامية بسفارة ليبيا بالمغرب.
الفيتوري الذي أبنته جميع وسائل الإعلام مؤكدة أنه ولد في عام 1936 ليس مولودًا في هذا العام وإنما ولد في العام 1929 بحسب ما تؤكده زوجة الفيتوري السابقة آسيا. حسنًا لماذا إذن يقال إنه مولود في العام 1929، المعلومات تقول إن الفيتوري كان يطمع في تمديد إضافي قوامه 7 سنوات مستظلًا بنفوذ وجمال وأبهة المنصب الديبلوماسي الرفيع، الرجل لم يرد التقاعد، الذي سيحرمه من كل هذا، وكالعادة ظفر الفيتوري بما يصبو إليه، فالقذافي لا يريد أن يهجوه الفيتوري. يريد سيفه معه، وقلبه معه أيضًا حتى أنه غازله قائلًا “الشعراء لا يتقاعدون” ليستمر الفيتوري محتفظًا بكل امتيازاته الديبلوماسية، كما أراد!
(3)
كتب الفيتوري قصيدته الشهيرة قلبي على وطني التي رثى فيها قائد الحزب الشيوعي السوداني عبد الخالق محجوب الذي أنهى جعفر النميري حياته على حبل مشنقة سجن كوبر في الساعات الأولى من صباح الأربعاء 28 يوليو 1971، يقول الفيتوري:
لقد وقفوا..
ووقفت
لماذا يظن الطغاة الصغار
وتشحب ألوانهم
أن موت المناضل موت القضية؟
أعلم سر احتكام الطغاة إلى البندقية
لا خائفًا، إن صوتي مشنقة
للطغاة جميعا..
ولا نادم، أن روحي مثقلة بالغضب
كل طاغية صنم
دمية من خشب
وتبسمت، كل الطغاة
ربما حسب الصنم الدمية المستبدة
وهو يعلق أوسمة الموت فوق صدور
الرجال،
إنه بطلًا ما يزال
وخطوت على القيد
لا تحفروا لي قبرا
سأصعد مشنقتي
وأغسل بالدم رأسي
وأقطع كفي
وأطبعها نجمة فوق واجهة العصر
فوق حوائط تاريخه المائلة
وأبذر قمحي للطير والسابلة
بعد هذه القصيدة استبد الغضب بالنميري ليسقط الجنسية عن الفيتوري ويسحب جواز سفره. هرب الفيتوري إلى بيروت ليعمل في الصحافة في الوقت الذي كان فيه القذافي غريم النميري جاهزًا لاحتضان المثقفين و”تدجينهم”، والفيتورى شاعرًا مشهورًا يتغنى بأفريقيا التي سيصبح القذافي لاحقًا ملكًا لملوكها!
(4)
في مشهد استعراضي يليق به قام القذافي في 3 مارس من العام 1988 بقيادة أحد الجرارات معلنًا عن تحطيم السجون وإصدار عفو عن المسجونين وهو يردد قصيدة (أصبح الصبح ولا السجن ولا السجان باقي) للشاعر محمد الفيتوري التي تغنى بها الفنان السوداني الراحل محمد وردي”.
الآن يدفع الفيتوري الثمن…
الآن هو أحد أسلحة القذافي…
تقول القصيدة:
أصبح الصبح
ولا السجن ولا السجان باقي
وإذا الفجر جناحان يرفان عليك
وإذا الحزن الذي كحل هاتيك المآقي
والذي شد وثاقا لوثاق
والذي بعثرنا في كل وادي
فرحة نابعة من كل قلب يا بلادي
(5)
ما يثير الدراما هنا ليس أزمة الهوية التي عانى منها الفيتوري وتشتته بين السودان الذي لا يعترف به ومصر التي درس وعمل بها وبيروت التي شهدت أول قصة حب وليبيا التي تستضيفه تحت مظلة قائد ثورة الفاتح، لا لقد تجاوز الرجل ذلك بكثير.
فقد دخل القذافي في مواجهة مع السفير الليبي الأسبق في القاهرة وهجاه الفيتوري وعيرة بأنه أسود، زنجي، مجرد عبد أسود، لحظة من يقول هذا.. الفيتوري، أليس هو القائل:
قلها لا تجبن، لا تجبن!
قلها في وجه البشرية..
أنا زنجي..
وأبي زنجي الجد.
وأمي زنجية..
أنا أسود..
أسود لكني حر أمتلك الحرية
أرضي أفريقيا..
عاشت أرضي..
(6)
سحلوا القذافي في الشوارع، مات القذافي ميته بشعة، أدخلوا العصى في مؤخرته ثم جابوا به الأرض الليبية التي حكمها بقبضة من حديد، سبحان المعز المذل، ثم؟
سحبت السلطة الجديدة من الفيتوري الذي أنهكه المرض في المغرب جواز سفره الديبلوماسي وامتيازاته، لم ييأس وتمخضت الجهود عن حصوله على جواز سفر ديبلوماسي لكن هذه المرة سوداني، وبعد حصوله على الجواز مباشرة، مات!
(7)
يقول محمد سعيد محمدية في كتابه “محمد الفيتورى ملامح من سيرة مجهولة” (دار العودة بيروت 2008) نقلًا عن الفيتوري- بتصرف- “أذكرك بأن الحياة تجارب ووقائع وأحداث وصدامات وتقلبات وصعود وهبوط وما علينا إلا أن نتأملها وأن نخوض تجاربها، ولماذا لا نشرب كؤوس الطلا من ينابيعها إذا أغدق الله علينا الفرصة والنعمة لماذا لا نتجنب القهر واليأس والبؤس والدمامة والظلام والظلم، لقد عانيت من قبل كثيرًا وأنا الآن ماض بكل قناعتي الوجودية وبكل الرضا في الطريق الذي سلكت، أنا محمد الفيتوري وسابقي محمد الفيتوري صديق الأطفال والتعساء والمحرومين وسوف أبقى على التزاماتي الروحية والأخلاقية والفنية.
محمود درويش كان ربيب الحزب الشيوعي الفلسطيني الإسرائيلي وقد صنع الحزب له هالة عالمية وقد خرج من موسكو إلى القاهرة عن طريق النظام المصري الذي احتضنه – وليس في ذلك عيب- وأصبح جزءًا من النظام الفلسطيني ورجل أبو عمار في السلطة.
أما عمر أبو ريشة فقد كان سفير سوريا في الهند والبرازيل وأمريكا في عهد القوتلي وعهد العسكر الأول وعهد البعث الأول والثاني، وبدوي الجبل ـ عملاق الكلاسيكية الشعريةـ كان وزيرًا في حكومتي صبري العسلي وفارس الخوري، والجواهري جلس إلى موائد الحكام والملوك وقال القصيدة الواحدة في أكثر من ملك وزعيم، وحسن عبدالله القرشي كان سفير خادم الحرمين الشريفين في السودان واليونان وموريتانيا… وأحمد شوقي ما كان إلا ربيب القصر، وصلاح عبد الصبور عمل ملحقًا ثقافيًّا لمصر في الهند والدكتور حسن مؤنس كان أيضًا ملحقًا ثقافيًّا لمصر في إسبانيا وعبد الوهاب البياتي، وهو أكثر الأدعياء عمل في وزارة الإعلام العراقية وأصبح مستشارًا بلا استشارة في السفارة العراقية في مدريد فلماذا لا أكون أنا جزءًا في الخارجية الليبية ولماذا لا أخدم في الخارجية الليبية وخصوصًا أنني قد آمنت بالثورة الليبية التي أعتقد أنها من أنبل وأشرف حركات المجتمع العربي؟
(8)
كان الفيتوري صادقًا في قصيدة ياقوت العرش عندما قال:
دنيا لا يملكها من يملكها
أغنى أهليها سادتها الفقراء
الخاسر من لم يأخذ منها
ما تعطيه على استحياء
والغافل من ظنّ الأشياء
هي الأشياء!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست