قد يكون تاريخ 20 فبراير تاريخًا عاديًا بالنسبة لكثيرين في منطقتنا، من الذين خاضوا تجاربهم الخاصة مع موجة الربيع العربي والتي تحولت إلى فصول من الدموية والفوضى أو الديكتاتورية المضاعفة والمضغوطة، والتي لم يفكر المستبدون السابقون كمبارك في ممارستها، لأن الحدود وبعض المبادئ وحاجزًا ثقيلًا من الخوف كان يسيطر على قلوبهم من غضب الشارع والانهيار الاقتصادي وغيرها من الاعتبارات التي انهارت الآن وتخطتها الأنظمة ومازالت تخوض بعضها كالغلاء والحرب والفشل الاقتصادي، وهذه المواقف التي لا تُحسد عليها بعض الدول تشكل المسار العام الذي اتخذه الربيع العربي والذي تم وسمه فيما بعد من أعدائه بالربيع الإسلامي والإخواني ومجرد موجة عارمة قادتها حركات الإخوان عبر المنطقة، كأن الإخوان هم تلك الجموع الغفيرة الناس غير المنتمين لأي هيئة أو حزب، والذين أجبروا الخالدين على الكراسي أن يسمعوا ربما لأول مرة كلمة غاية في القسوة والفظاظة والتي تختزل عقودا من الألم والقهر: ارحل.
هذه الكلمة وهذه الموجة كان للمغرب تجربته معها، تجربة متفردة وغاية في المرونة أملتها طبيعة النظام السياسي الذي يتيح إنشاء الأحزاب والمنظمات المدنية، والذي شهد لعقود صراعا كبيرا ما بين الأحزاب الوطنية والكبيرة والسلطة انتهت إلى هزيمة الأحزاب واستسلامها لمبدأ المصالحة اتضح فيما بعد أنه بسبب قنوط أغلب قياداتها من جدوى الاستمرار في الصراع، وإيثار السلامة والنفعية أمام الآلة الجبارة للسلطة وانهزام طموح بناء ملكية برلمانية، يكون الحكم فيها للشعب عن طريق انتخاب حكومة مسؤولة ومستقلة تكون لها مسؤولية اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية الكبرى وتتحمل المسؤولية أمام الشعب، وهذا المبدأ العريق في مطالب الحركات المستقلة ممن بقيت وفية لمطالب الماضي سيعاد إحياؤه أثناء عشرين فبراير من العام 2011 في موجة الربيع العربي، وبجرأة غير مسبوقة تمت تسمية الأشياء بوضوح والشخصيات التي يجب أن ترحل وتلك التي تتحمل مسؤولية الأوضاع الحالية، ولكن دون أن يتم التجرؤ على الدخول في مواجهة مع الملك أو المس بحرمته، بل تم التوجه إليه باعتباره ضامن الانتقال الديمقراطي والساهر على حماية المؤسسات كي يتدخل لإصلاح الوضع.
ولأن المسار الذي اتخذه الوضع بعد خطاب الملك معروف، فإن الذي يجب الالتفات إليه هو النقاش العمومي الذي فُتح حينها، وامتد نحو كل مناحي الحياة، ولم يقتصر على الجانب السياسي وحده، بل شمل الدين والعلاقات العامة والحريات والثقافة والنموذج الاقتصادي في ظاهرة صحية خفتت فيما بعد؛ لأن مهرجانات العدالة والتنمية وتصريحات زعيمه بنكيران طغت وفرضت نفسها وجعلت العدالة والتنمية في قلب الحدث، وراح الحزب يقدم نفسه كالحزب الموعود الذي يقدر له استلام مفاتيح الحكم، وإعادة الأمور لنصابها بالقضاء على الفقر وتسريع التشغيل وتنزيل الدستور (ذهبت به الأحلام لإحياء اتحاد المغرب الكبير)، كأن المغرب غير مثقل بنخبة فاسدة وأخرى قابلة للإفساد وتبديل موقفها، ورأسماليين فاسدين أغلبهم غير معروف ويضخون عبر شبكات علاقاتهم الوهن، ليس في الاقتصاد وحده، وإنما في الروح المغربية، وتشكل تصرفاتهم وجشعهم ضربة قاتلة لمبادرات الشباب، وكل تحرك إصلاحي، وتفرض عليهم أن يؤمنوا أن السياسية هي فن يتقنه هؤلاء المرتشون غير المتعلمين، وأنهم وحدهم من يملك الفهم السليم للواقع، رغم أنهم هم من يؤثرون بجشعهم في الواقع ويجعلون من البلد ساحة مغلقة، وناديًا خاصًا لتبادل منافع خاصة.
لعبة بنكيران السرية كانت مفضوحة منذ البداية والنوايا الحسنة التي أراد إبداءها تجاه السلطة عبر الانبطاح التام لم تسعفه لنيل الثقة الخالصة، وفي الأخير وقع في المحظور حين تخلى عن القاعدة التي صوتت عليه، في محاولته لكسب ثقة رجال الأعمال ودوائر القرار، ورغم البُعد الاجتماعي لكثير من قراراته، ورغم أن البلد كان وما يزال مثقلًا بالديون والظروف الاقتصادية الصعبة، إلا أن ذلك لا يغفر له اللجوء للحلول السهلة، وهي ضرب الطبقة المتوسطة والضغط على الطبقات الشعبية وعجزه عن استرداد ما تم نهبه وتوقيف المتورطين الذين تملأ أفعالهم واختلاساتهم أرشيف المجلس الأعلى للحسابات والكثير من التظلمات الموضوعة أمام القضاء والمؤسسات المختصة.
بعد انتهاء زمن بنكيران تبدو الحصيلة هزيلة على الصعيد السياسي، رغم الخدمة الجليلة التي أسداها للدولة، وهو درء خطر الغضب الشعبي بإطلاق الوعود الرنانة ومخاطبة الناس بلغة قريبة منهم سكنت آلامهم، ولم تقض على مصدر تعاستهم، ولو أنه تمكن من تنزيل الدستور وتأويله ديمقراطيًا، بدلًا عن الاستنجاد بالملكية كلما هم خطب بحكومته، ولو أنه قاتل لأجل استقلالية رئاسة الحكومة وفرض على حلفائه قبل خصومه احترام الدستور أو تحمل تبعات ذلك وقام بتنوير الرأي العام بالمستجدات والضغط لأجل حماية مكاسب الشعب في التعليم والصحة والمعيشة الرخيصة، حينها فقط يمكن القول أن بنكيران أنجز المهمة وقطع نصف الطريق، لكن الخوف غلبه وهذه الخصلة التي اتضحت عندما أعلن عجزه في لقاءين تليفزيونيين الأول مع الجزيرة في بلا حدود حين أطلق مقولته الشهيرة عفا الله عما سلف أمام المفسدين، والثاني في لقاء مع (ميدي أن) حين صرح بعظمة لسانه أنه يخاف على نفسه وأن أمور الدولة ليست لعبًا.
علاقة العدالة والتنمية بعشرين فبراير عضوية فبدون هذا التاريخ ومطالبه لما وصل الحزب إلى الحكومة، ولأنه قدم نفسه كخيار ثالث أمام الاضطرابات والقمع، واستغل كل الشعارات كالعدالة والحرية والعيش الكريم ليصل، وحين وصل فعل ما لم يفعله السابقون بتوجيه الضغط نحو الطبقات الدنيا وزيادة المديونية والتخلي عن الصلاحيات التي ضحى لأجلها الكثيرون، وبذلك يكون قوس 20 فبراير أغلق قبل أن يُفتح من قبل من تجرؤوا على النيل منه، وهذا على المستوى السياسي الرسمي، إلا أنه على المستوى الشعبي ما تزال الاحتجاجات والتظلمات تنتقل إلى مدن وقرى الهامش، وبين ثنايا المدن المنسية ما تزال روح فبراير ومطالبها تتنفس عبر الأجساد المنهكة والجيوب الفارغة ومنظر المستقبل الغائم.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست