تعتبر الخدمة الإعلامية من الخدمات الحساسة بالنسبة لأية دولة من الدول، فهي بمثابة المدرسة تنشر وفقها قيمها ومبادئها وأيديولوجيتها، ومن بين أكثر أجهزة الإعلام حساسية وثأثيرًا في الرأي العام هنالك التلفزة، فالشبكات التلفزية في الدول الديمقراطية الكبرى قد ضمنت إلى حد كبير استقلالها عن الرهانات السياسية وجبروت السلطة، نتيجة اتساع الفضاء الديمقراطي من حولها، أي فضاء توازي السلط ورقابة بعضها على البعض الآخر؛ مما يتيح للمؤسسة التلفزية هامش الاستقلال المادي والرمزي والاشتغال وفق تصوراتها، لكن لا يحجب الرؤية عن شبكات تلفزية تحت قبضة قوى المال والاقتصاد توظف وفق خياراتها، أما في دول العالم الثالث عمومًا والمغرب بوجه خاص، تعتبر التلفزة جهاز مؤسس وفق تصورات السلطة وإملاءاتها، في ظل أجواء تتسم بديمقراطية معطوبة يسوق لها في المؤتمرات والصالونات السياسية؛ مما يجعل هذا الجهاز الحساس ليس قائمًا بذاته، أو مستقلًا في تصوره واشتغاله وسلطة موازية، بل مكون من مكونات السلطة القائمة، والقائم وفق تصوراتها وإرشاداتها، وأيضًا وفق أدواتها المادية والرمزية في ظهرانيه الآني والمستقبل.
فمنذ فجر الاستقلال لم يعمد المغرب في تحقيق استقلالية أفقية / عمودية لجهاز التلفزة، بل تكريسه بوق للسلطة للترويج لخطاباته ودعايته، وتغطية أنشطته ورسمياته ومعظم إنجازاته، وترفع من قيمة القائمين على ذات المنجزات أو المشرفين على ذات الأنشطة، فالراحل الحسن الثاني بالموازة على احتكاره للمؤسسة الدينية والعسكرية، عمل على الانفراد بجهاز التلفزة لتدعيم شرعيته السياسية والدينية، الأمر الذي أدى إلى تشكيل حكومات، ثم فيها الربط بين وزارة الإعلام ووزارة الداخلية في عهد الراحل إدريس البصري، وتعيين مشرفين على جهاز التلفزة من رجال السلطة عمال وولاة؛ مما أخضع جهاز التلفزة للاشتغال وفق الهاجس الأمني، وعلى الرغم مما شهده الجهاز السمعي البصري من تحولات جديدة في عهد الملك محمد السادس من خلال خلق عدة قنوات تلفزية وإذاعات جهوية وإحداث هيئة تنظم قطاع السمعي البصري في المغرب سميت بالهيئة العليا للاتصال السمعي البصري لتحرير القطاع وصدور مرسوم قانون بوضح حد لاحتكار الدولة في مجال البث الإذاعي والتلفزة… إلخ.
ظلت التلفزة آلية لتدعيم الشرعية الدينية والسياسية، عبر تسليط الضوء عن الملك كقدسية لصفة أمير المؤمنين، وتغطية كل الأنشطة الملكية زيارة رسمية / موكب ملكي / نشاط ملكي / خطاب رسمي… إلخ، وظل بالتالي جهازًا محتكرًا من طرف مكونات السلطة القائمة لا يتيح أحقية فتح قنوات تلفزية خاصة مستقلة في تصوراتها وآليات اشتغالها، عن تسلط السلطة، وأيضًا حتى المجلس الأعلى للهيئة العليا للاتصال السمعي البصري يفتقر إلى بنية تنظيمية داخلية َمستقلة عن مكونات السلطة القائمة، كون يتكون من تسعة أعضاء، خمسة يعينهم الملك، بما في ذلك رئيس المجلس، ثم اثنين آخرين يتم تعيينهما من قبل رئيس الحكومة، والعضوان المتبقيان يعينهما رئيس غرفتي البرلمان
فالتلفزة المغربية لم يرد لها أصلًا أن تكون انعكاسًا للواقع أو قاطرة في اتجاه التغيير، وإلى ما السر في سخط شرائح اجتماعية عريضة من المجتمع على الشبكة البرامجية للتلفزة، وما السر وراء تغييب البرامج الثقافية والإبقاء في حدود النشرات الإخبارية والسهرات الفنية وغيرها بما فيها الرياضة، ومنع مثقفين وازنيين على المستوى الأكاديمي، وأصحاب رأي حر ومصداقية من التغطية الإعلامية؛ لأن التلفزة المغربية تلفزة للسلطة، عوض أن يمأسس لسلطة تكون التلفزة مؤسسة مستقلة فحسب، بل أيضًا وبالخصوص كنواة للسلطة الرابعة، تحولت التلفزة من طبيعتها كسلطة للكلمة والرأي إلى بوق السلطة.
إن تلفزة السلطة نجحت في تغييب قضايا المغرب الحديث وتهميش المطالبين بتدارسها. ونجحت أيضًا في تمييع ذات القضايا وطرحها في الميدان العام، بما يتوافق وفق تصورات السلطة وإملاءاتها، تصور لا ينبني على ضرورة توزيع الثروة والسلطة المادية والرمزية، بل يرتكز على القبول بتمركزها واحتكارها، ويصف الفكر المناهض للتصور إياه ضمن منظومة نظرية المؤامرة أو الفوضوين؛ مما ساهم في تغييب أنظار الرأي العام أن مكامن الصراع والممانعة القائمة مصدرها ومنبعها غياب العدالة وتوزيع السلطة الرمزية والثروة المادية بين أبناء الوطن على أساس المساواة والإنصاف، ليست حكرًا لمجتمع 1%.
وعليه يجب العمل على تفكيك البناء التلفزي تصورًا وتسييرًا على مخالب وجبروت السلطة، والعمل على استنباط ثقافة تلفزية جديدة، يكون عمقها الشأن العام وخدمة شرائح الرأي العام والقضايا الأولوية والمصيرية للمغاربة، وتعزيز باقة تلفزية من البرامج الثقافية الهادفة حتى ننقد الثقافة المعدمة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست