«مرسي راجع»، عبارة ظلت طوال ست سنوات خلت بسيطة في مبناها، معقدة في واقعها ومعناها، رددها عدد كبير من أنصار الديمقراطية والشرعية بعد الانقلاب على الرئيس، ودار حولها جدل كثير بين مؤيديه قبل استهزاء معارضيه؛ لأنهم يعرفون أن الدبابة إذا خرجت لتحكم الشارع لن تعود إلا بنكسة بشرية أو بقدرة إلهية.
وها هو الأجل يحسم الجدل وينهي النقاش؛ فلقد أخذ الله الرجل إلى مكان أفضل من مكانه، من ضيق العنابر إلى سعة المقابر، ومن محكمة الأرض إلى محكمة السماء، التي تختلف تمامًا عن محاكم العسكر التي وقف فيها أسدًا جسورًا حزينًا – لا على منصبه الذي لم يسع إليه- على دولة وأد الظالمون نهضتها، حزينًا على حلم لم يكتمل، وعلى وطن لم ينهض.
وقف شامخًا كالجبال الرواسي، أسدًا تحيط به قطعان الجرذان، لا يأبه بمن ظلمه ولا يلوم من خذله، ولا يعطي قيمةً لأذناب عسكر يحكمون بما أرادت البندقية.
لا أكتب مقالي لأجدد الجرح الذي لم يندمل، ولا لأوقد جمرة الغضب التي لن تسكن؛ ولكن لأخمد نار اليأس التي اشتعلت في قلوب الكثيرين، ولأسقي شجرةَ الأملِ التي ظمأت في قلوب الحيارى والمظلومين، حدث ما حدث – وما شاء الله كان- ومات من نحتسبه شهيدًا – جسدًا- ولكن روحه ما زالت تلهم الأحرار الانتصار، وتلهم الثوارَ الثبات؛ فستظلُ كلماته كالشمعة بعد أن دبت فيها – بموته- الحياة.
مات البطل واقفًا مثلما عاش شامخًا ضد الظالمين طوال عمره مناديًا بالحرية ساعيًا لكرامة وطنه؛ ولذا فقد اصطفاه ربه ولم يمكِّن الظالمين منه، فلم يخضع بقول ولم يضعف بعمل، مات بعد صبر وثبات علّم العالم كيف يكون الصمود؟ وكيف تعيش فكرتك بموتك من أجلها؟ فكثيرون ماتوا وما ماتت فكرتهم، بل كتب الله لها الانتشار والخلود؛ فلقد سُقيت تربتها بدماء أصحابها؛ فأنبتت من كل زوج بهيج.
محمد مرسي الذي جاء للانتخابات – مجبرًا من محبيه مختلفًا عليه من غيرهم- لم يكن يعلم أنه سيكون في يوم من الأيام رمزًا لنضال حاكم، وأيقونة لشعب ثائر، وشعلة ضوء تنير للسائرين دربهم، وللصابرين طريقهم.
دعنا نتفق أن الرئيس الشهيد لو اختار لنفسه نهاية ما اختار أجمل من هذه النهاية، ولو خطط لبقاء أثره وخلود اسمه في تاريخ العظماء ما نال أكثر مما نال، إنما هي إرادة الله يرفع من يشاء ويضع من يشاء، يفتح لمن شاء قلوب عباده حتى لو حاصر العالم جسد صاحبه «ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها»؛ فلقد مات البنا منذ ما يقرب من 100 عام وما ماتت فكرته، وما خفت ضوء سيرته، فإن منع الظالمون أهله ورفاقه من وداعه والصلاة عليه؛ فلن يمنعوا أحرار العالم من الترحم عليه والصلاة عليه، ووداعه وداعًا يليق بشهيد صبر صبرًا جميلًا؛ فقد صلى عليه العرب والعجم، الكبير والصغير، من صوّت له، ومن لم يصوّت له، وهذا والله لسر يعلمه الله، ولخبيئة كان يداوم عليها الشهيد؛ جعل موته حياة.
بطلًا حييت برغم ألوان الأذى … أفلا تموت اليوم كالأبطال
قد عشت تدعو للنضال فحان أن … يحيا بموتك ألف ألف نضال
مات واقفًا شامخًا في سجون الظالمين رافضًا قصورهم الجبرية ومعرضًا عن مساوماتهم الهزلية، اختار عزة القبر على ذل القصر.
لقد أثبت الرئيس الشهيد أن الأعمار بالأعمال لا بالأعوام؛ فعام واحد كان كفيلًا بأن يصنع منه بطلًا شعبيًّا ورمزًا عالميًّا، جعل الأحرار يبكونه في كل مكان، ويدفنونه لا سرًّا في القبور بل جهرًا في الصدور.
مرسي راجع، راجع رغم موته، رغم أني لم أكن من أنصارها وقت ترديدها؛ لا ضعف يقين ولا تقليل منه، ولكن ليقيني أن هذا الرجل لا تستحقه تلك الجموع التي خرجت عليه حقدًا وكبرًا «أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ».
أقولها الآن وبكل ثقة: «مرسي راجع» راجع بكلامه ومواقفه، فإن أسكتوا بزجاجهم العازل صوته فستصدح آلاف الحناجر بكلامه، وإن أنهوا جديد كلامه بموته فستحيا كلماته الخالدة في نفوس المخلصين، وإن ذهب مرسي فسيخرج من بين محبيه ألف مرسي؛ فسنبلة قمح تجف تملأ الدنيا سنابل.
فأعيدوه بينكم بفعالكم وثباتكم، أخرجوا من أولادكم من ينهج نهجه في الحرية، ومن يقتفي أثره في الثبات، ومن يموت واقفًا مثله، علموا أولادكم ما علمكم إياه بثباته قبل لسانه، علموهم بمواقفكم أن آباءهم كانوا رجالًا لا يقبلون الضيم، ولا ينزلون على رأي الفسدة، اغرسوا فيهم حب القدس واجعلوا قلوبهم تتوق إلى بيت المقدس، اجعلوهم طموحين يتطلعون لإنتاج غذائهم وصناعة سلاحهم، اجعلوا بينكم وبين الله سرًّا وحالًا وخبيئة؛ لتموتوا موتة ملهمة على طريق الحق؛ فالموت على طريق الحق انتصار:
فإما حياة تسر الصديق … وإما ممات يغيظ العدا
ولعمري أن موته واقفًا شامخًا أغاظ العدا، ومما زاد من اشتعال حقدهم ضوء الحب الذي أضاء العالم ترحمًا عليه.
أيها الأحرار: لا تجعلوا حزنكم عليه ينسيكم طريق كفاحه، ولا تيأسوا فليس اليأس من أخلاق الثابتين، ولا تملوا فأمر الله بين «كن فيكون»، اجعلوا من موت الشهيد حياة لروح دعوتكم، ووقودًا لمشاعل فكرتكم، وبلسمًا لأمتكم الجريحة، اجعلوا سيرته وصبره وثباته نصب أعينكم، وموتوا كما مات الأبطال، وليختر كل منكم حياته الأبدية بنفسه، فإن عشت في سبيل الله ستموت في سبيله، وإن عشت لقضية ستموت شهيدًا لها أو منتصرًا بها.
لا تحزنوا ولا تبكوا لأنكم لم تشيعوا جنازته؛ فالملائكة كفتكم الحضور، حلت محل إخوانه المطاردين ورفاقه المعتقلين، وكأني أسمع صوت الشهيد ينادي في كل الباكين:
أنا إن حُرمت وداعكم لجنازتي … فملائك الرحمن لم يدعوني
إن لم يصل علي في الأرض امرؤ … حسبي صلاتهــم بعــلييـــن
لا تـــحزنوا إني لربــــي ذاهـــبٌ … أحيا حياة الحر لا المسجونِ
سلام عليك يا رئيسنا الحبيب وعلى ثباتك ونضالك، سلام على رفاقك الذين ودعتهم عند باب السجان منتظرًا إياهم – بإذن الله- في أعلى الجنان؛ لتحكي لهم ولنا كواليس لا نعرفها، ولنحكي لك ملحمة وداع لم تشهدها، ولننعم برفقة نبي كريم لم نحد عن طريقه قائلين: «يا رسول الله هل يرضيك أنا إخوة في الله للإسلام قمنا».
سلام على روحك الحاضرة المحررة وعلى جسدك الغائب المحاصر، ستكون معنا يوم الانتصار بكلماتك وابتساماتك «ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله».
وإلى لقاء تحت ظل عدالة … قدسية الأحكام والميزان
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست