في أول مقالٍ نقديّ عن الطيب صالح وروايته «موسم الهجرة إلى الشمال» يضع رجاء النقاش[1] الرواية في قائمة الروايات التي تتناول قضية تلاقي الشرق بالغرب[2] فهي تتناول شخصية سودانية متفوقة تسافر إلى لندن وتتميز في الدراسة لكنها تحمل جانبًا عنيفًا ضد أوروبا التي احتلّت الشرق واستغلت ثرواته. يلاحظ النقّاش العنف الزائد في الرواية عن باقي الروايات الأخرى ويرجعه لعنصرية أوروبا ضد البشرة السوداء.

قد يكون هذا التفسير مقبولاً إذا مورس هذه العنف ضد مصطفى سعيد في لندن، لكن العنف المذكور مارسهُ مُصطفى سعيد ضد فتيات أوروبا الحسناوات دون عنفٍ يمارس ضده في المقابل. بل إنه مارس ذات العنف ضد الفتاة المصرية التي التقاها في القاهرة، فهل تمارس مصر عنصرية ما ضد البشرة السوداء كما تفعل أوروبا؟

ما تحكيه الرواية يتعارض مع تحليل العنف الذي يرجعه النقَّاش إلى عنصرية أوروبا ضد البشرة السوداء. فقد لقي سعيد العناية من «مسز روبنسون» زوجة المستشرق الذي يقيم في مصر، وتعلم في لندن وحاضر في جامعاتها، بل ولقي تعاطفًا من والد ضحيته وزوج ضحيته الأخرى اللتان تسبب في انتحارهما. فإن كان لقي كل هذا في لندن، فما الذي دفعه إلى ممارسة العنف فيها حد قتلهِ لزوجتهِ الإنجليزية؟

إن لحظة قتل مُصطفى سعيد لزوجتهِ هي لحظة جوهرية ومصيرية في مسار الرواية، وفي طبيعة النموذج الفكري الذي يحكم شخصياتها وينتقل عبرهم، ذلك أنها لحظة كشفٍ ولحظة تحول. وتفسير هذه اللحظة وربطه بمسار الرواية وعناصرها، سوف يكشف لنا كثيرًا من الرموز المبهمة في هذه الرواية المهمة.

غالبية التحليلات التي تناولت الرواية لم تهتم بهذه اللحظة ولم تقدم لها تفسيرًا مقبولاً يمكن أن يتسق مع مسار الرواية ككل. فيُرجع جابر عصفور سبب القتل إلى ارتباط شهوة الجنس مع شهوة الموت، فهي «لم تمنحه نفسها، ولم تستسلم له إلا في اللحظة التي اندفع هو والسكين إلى داخل جسدها، الذي اتحد به في اللحظة التي يتحد فيها الإيروس بالثناتوس»[3] وهو تفسير مبسط ولا يربط هذه اللحظة بطبيعة الحدث الدرامي في الرواية. ويحاول محيي الدين صبحي أن يفسر سبب هذا القتل، فيُرجع الأمر إلى اجتماع عدّة عوامل هي الغيرة وطبيعة الرجل العربي ويقارن قتل مُصطفى سعيد لجين مورس، بقتل عُطيل لزوجته ديدمونة. ويضيف للتفسير أن طبيعة الرجل الشرقي أو العربي ترفض تأبِّي زوجته عليه». لقد قتل عُطيل ديدمونة مثلما قتل مُصطفى سعيد جين مورس، وللسبب ذاته: لأنه لم يستطع أن (ينشئ) معها علاقة حميمة تجعله يشعر أنه يمتلكها من داخلها»[4] ولم يشرح لنا لماذا عجز سعيد عن إقامة مثل هذه العلاقة؟

إن مثل هذا التفسير يختزل سلوك العنف العام في النص؛ في العنف الذي حدث لحظة قتل جين مورس، وهو يتنافي مع ما قاله مُصطفى سعيد في محاكمتهِ بأنه ليس عطيلا وإنما هو أكذوبة.[5] لقد كان الطيب صالح واعيًا لهذا التشابه وأصّر على التنبيه حتى لا تحدث مثل هذه المقارنة الاختزالية.

ويحاول جورج طرابيشي في قراءةٍ يقدمها من منظور علاقة الجنس بالحضارة أن يفسر رمزية المشهد بكون جين موريس هي رمزًا للحضارة الغربية التي تستلب الحضارة العربية من كل تاريخها بدعوتها الكاذبة أن تمنحها نفسها وهو يشبه سلوك العهر، فهكذا قرأ مشهد ليلة زواج سعيد ومورس حين اشترطت عليه أولا أن تأخذ الزهرية الثمينة قبل أن تمنحه نفسها ثم تكسرها، ثم المخطوط العربي فتمضغه، ثم المصلاة فتلقيها في النار، بعدها تضربه في مركز ذكورتهِ أو رمزية سلاحه الاستعماري وتختفي. وهو يفسر كذلك تمنعها عليه بالرغم من كونها مومسًا؛ بأنها تستأثر بمصطفى سعيد وغيره لكنه لا يستأثر بها. وهو ذات السلوك الاستعماري. ولهذا حاول سعيد أن يمتلكها من خلال قتلها «لم تكن هناك طريقة أخرى لامتلاك جين مورس غير اغتيالها»[6]، فـ «لقد أحبها بطريقةٍ معوجة فكان لا مناص من أن يمتلكها بطريقةٍ معوجة»[7] لكنه يعود ليقول أن مُصطفى سعيد «بقتله لها اكتشف أنه لم يمتلكها قط، ولم يمتلك من قبلها آن همند وشيلا جرينود وإزابيلا سيمور، لم يمتلكهن بل مثّل دور الامتلاك، لم يكن غازيًا فاتحًا بل مثل دور الغزاة الفاتحين. بقتل جين مورس اكتشف الحقيقة، حقيقة أكذوبته».[8]

وبالإضافة إلى أن هناك تضاربًا في هذه الرؤية، إلا أن هذا التفسير يبلور الفعل الاستعماري دون أن يتتبع مساره ويحلل عناصره في النص، ويعجز عن تبرير عودة مُصطفى سعيد إلى السودان، واستئناف حياتهِ بدلا من العيش في أي بلدٍ آخر.

إن هذه القراءات التي تختزل الرواية ومشهد القتل في الجانب الجنسي لا تستطيع أن تقدم تفسيرًا عامًا يربط بين أجزاء الرواية بشكلٍ متناسق. فربط الجنس بالموت في ما أسماه الشيخ محمد الشيخ ببنية العقل التناسلي [9] التي دعت سعيد لقتل زوجتهِ – نتيجة لخيانتها – وأدت إلى فشله في مهمتهِ بإلحاق العار ببريطانيا التي تتحرك وفقًا لبنية العقل البرجوازي الذي لاينفصل فيه الجنس عن النسل، بالتالي فقد مرجعيتهِ كنظام للقيم؛[10] هو تسطيح لبنية النص الفنية وعلاقتها بشخصيات الرواية، وحصرٌ للرواية في محاولة انتزاع لشخصية مُصطفى سعيد وتفسيرها بعيدًا عن باقي النص.

كذلك فإن الرؤية التي يقدمها الشيخ محمد الشيخ ويفسر من خلالها رغبة سعيد في أن يقتله البريطانيون كدليل على نجاحهِ وبطولتهِ في إلحاق الضرر بهم، وحين لا يفعلون يبدأ في اكتشاف وهم أكذوبته، هذه الرؤية تحاول أن تلوي عنق النص كي يتسق مع نظرية معينة، و تغفل أن سعيد اكتشف أكذوبته قبل أن يقرر البريطانيون أن يسجنوه بدلا من إعدامه. وهي رؤية لا تفسر كذلك مسار الرواية ومسار الشخصية التي سعت – بعد العودة إلى السودان – إلى العمل في النضال المؤسسي.

إذا كان الطيب صالح يتناول قضية استعمار أوروبا للعالم الثالث، من خلال نصٍ تتحرّك شخصياته في سياقٍ عنيفٍ ضد أشكال الاستغلال المختلفة، فإن هذا لا بد أن يذكرنا بفرانتز فانون (1925-1962) ونظريتهِ في الاستعمار الأوروبي. بالتالي قد يمكننا أن نفسر سلوك العنف في ارتباطهِ بالاستعمار إذا حاولنا قراءة النص من خلال منهج العنف الذي نظّر له فانون في كتابهِ «معذبو الأرض»[11]، فشخصية سعيد التي ولدت في ذات العام الذي جاء فيهِ الاستعمار البريطاني ليهزم فيهِ المقاومة المهدية (1898)، عانت من نوعين من الاضطهاد؛ اضطهاد الاستعمار الذي مارس أشكالا مختلفة من الاضطهاد والعنف والاستغلال ومحو الهوية حد إنشاء المدارس كي يعلم السكان الأصليين كيف يقولون نعم بلغة المستعمِر، واضطهاد العنصرية الأوروبية ضد البشرة السوداء التي يرونها أقل درجة من الإنسان.

تمر الرواية بأربعة تحولات رئيسة، التحول الذي حدث في حياة مُصطفى سعيد حين سافر إلى لندن فعانى من اختلاط الهوية دفع بهِ إلى التخريب والعنف، ثم قتله لجين مورس واكتشافهِ لأكذوبتهِ مما يؤدي بهِ للعودة مرة أخرى إلى للسودان، التحول الثالث يحدث في شخصية حُسنة بنت محمود حين تتزوج مُصطفى سعيد وتتبدل هويتها، ثم التحول الأخير وهو قتلها لود الريس بعد زواجها به غصبًا؛ وهو ما يكشف أثر الاستعمار الثقافي الذي حاول سعيد أن يقاومه بعد عودتهِ إلى السودان.

قد يرمز مُصطفى سعيد إلى السودان أو إلى جيله الذي عاصر أول نوبات الاستعمار في العصر الحديث، أو لرجل العالم الثالث المستعمَر. وهذه الطبيعة سواء البيئية أو الإنسانية؛ قادرة على امتصاص واستيعاب حضارة الغرب بأكملها، فليس ثمّة اختلافٍ بين بيئةٍ وبيئة أو بين عقلٍ وعقل. على أن مُصطفى سعيد الذي عاش بعقلٍ يحملُ معرفة أوروبية في لندن، لم يستطع أن يحمل هويتها ولا قبولها له ببشرتهِ السوداء. «مُصطفى سعيد يا حضرات المحلفين إنسانٌ نبيل استوعب عقله حضارة الغرب، لكنّها حطمت قلبه»[12] فالعنصرية المقنّعة برداء التحضّر تجعلهم يتحدثون عن قضيتهِ من الخارج، لكنهم لن يقبلوه أبدًا كفردٍ منهم «وإذا جاءت ابنة أحدهم تقولُ له أنني سأتزوج هذا الرجل الإفريقيّ، فيحسُّ حتمًا أن العالم ينهار تحت رجليهِ».[13]

لقد حمل ثقافة الرجل الأبيض وحضارتهِ وبشرة الرجل الأسود المضطهد، ومن هنا كانت قضية هويتهِ وازدواجيته. ولم تأت هذه الهوية المشوهه من طبيعة البيئة السودانية كسياقٍ ثقافيّ أو جغرافيّ؛ وإنما من طبيعة تلاقي البيئة الأوروبية مع البيئة الإفريقية، وتحديدًا من «جرثومة مرضٍ فتّاك أصابهم منذ أكثر من ألف عام»[14] هذه الجرثومة هي الحروب الصليبية التي بدأت في القرون الوسطى، واستمرت منذ ذلك الحين متخذةً أشكالا مختلفة، فرضت في العصر الحديث أن تنتقل العلوم والثقافة لأهداف استعمارية «وقد أنشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول «نعم» بلغتهم».[15]

هذا التلاقي العنيف الذي بدأ في الذاكرة والوجدان الجمعي الإفريقي يدفع بهِ مُصطفى سعيد عنفًا كان اختزله – واختزل عالمه لقرونٍ طويلة – إلى كائنٍ سلبي؛ ضد الحضارة التي حملتهم إلى هذا المصير. وتلك أول مراحل الخروج من دور المضطهَد المستعمَر، وأول السبيل إلى التحرر.

لكن درء العنف هو محاولة لوقف تفشي المرض، وليس لعلاج تشوهاته التي حدثت. فالهوية لا زالت مضطربة، لازالت مشتتة بين الغرب والشرق، بين التحضر والقبلية بين الـ «جنوب (الذي) يحنُّ إلى الشمال والصقيع».[16] وأثر ذلك أن مُصطفى سعيد يقدم هذه الصورة الاستشراقية عن بلاده كي يُدخل المرأة إلى فراشه، ويختلق الأكاذيب ثم يخيّل له أنها حقيقة «ورغم إدراكي أنني أكذب، فقد كنتُ أحسُّ بطريقةٍ ما أنني أعني ما أقول»[17].

هذا التذبذب والاضطراب في إدراك الذات يأخذ منحى مختلفًا في لقائه بجين مورس التي اختزلته في بشرتهِ السمراء بشكلٍ حاسم «أنت بشع. لم أر في حياتي وجهًا بشعًا كوجهك»[18] ولم تواته الفرصة للرد، وهو لهذا أقسم أن يقاضيها الثمن في يومٍ من الأيام. لقد كان أسيرًا لعقدة فوقية تجعله يصنِّف نفسه على أنه غازٍ مستعمر أعلى درجة من هؤلاء البشر، فأتى موقف جين مورس أكثر استعلائية وتطرفا، مما خلق الصراع وأججه.

هذا اللقاء هو نموذج مصغّر للفعل الاستعماري، فهي تمارس عنفًا معنويًا تجاهه، وهو لا يُمنح الفرصة للرد، ويتكون نتيجة هذا رصيدًا سلبيًا من الغضب والتنافر. وهو إعادة تكثيف للصراع الأوروبي الإفريقي بشكلٍ معاكس، يمارس فيه سعيد «عقدة الفوقية والاستعلاء» باعتباره الغازي الذي جاء مستعمرًا، بينما جين مورس ترمز للحضارة الأوروبية وتمارس عنفًا ضد عنفٍ، وتقلب السحر على ساحره، وتدور الحرب بينهما؛ أيهما سيستغل الثاني ويستنفذه ويتركهُ خواءً فارغًا.

تتبلور – بعد هذا اللقاء – هويتهما الجديدة بشكلٍ ضدّيّ. فهو ضدٌّ لها وهي تستغله دون أن تمنحه شيئًا، ودون أن يقدر على استلاب شيء منها أو من أنوثتها «لا أرقص معك ولو كنت الرجل الوحيد في العالم. صفعتها على وجهها فركلتني بساقها وعضتني في ذراعي بأسنانها كلها كأنها أسنان لبؤة».[19] فأسلوبه لم يعد يفلح معها «لم تكن لي حيلة. كنتُ صيادًا فأصبحتُ فريسة. وكنتُ أتعذب وبطريقةٍ لم أفهمها كنتُ أستعذب عذابي»[20] إنها تغيّره مجددًا من دوره الإيجابي في التعبير عن نفسهِ بعنفٍ وقوّة إلى هذا الدور السلبي الذي يتلقى العنف والاستغلال والتدمير الممنهج لهويتهِ «كانت الحرب تنتهي بهزيمتي دائمًا […] كان هذا أخطر سلاح عندها، كل معركة تنتهي بتمزيق كتاب مهم»[21] وهو لهذا أدرك أنه لن يقبل بهذه النهاية ولا بهذه الهزائم المتتالية، فالقضية لم تعد وجودًا أو عدم فهي في كل الأحوال تمثِّل تدميرًا له «أنا الغازي الذي جاء من الجنوب، وهذا هو ميدان المعركة الجليدي الذي لن أعود منه ناجيًا. ولكنّي لا أبالي»[22] ولهذا ما كان له أن يتماهى معها أبدًا حتى في اللحظة التي بدأت تلين له وتستسلم، «قلتُ لها بصوتٍ واثق كدتُ أنساه من طول ما فقدته، هل كان معكِ أحد؟ أجابتني بصوتٍ أثر فيه وقع صوتي: لم يكن معي أحد. هذه الليلة لك أنت وحدك. أنا انتظرتك منذ وقت طويل. أحسستُ أنها تصدقني لأول مرة. هذه الليلة ليلة الصدق والمأساة، أخرجتُ السكين من غمدهِ»[23] لأن الاستسلام واللين جاء بقرارٍ منها ولم يأت بعنفٍ يتماشى مع تصوره الاستعماري/الاستغلالي لها، وهو ما يفقده الحرب تمامًا. فقتله لها لا يعني انتصاره، وإنما يعني نهاية الحرب «أشدد قبضتي على عنقها […] لو أنني ضغطتُ قيد أنملة أكثر مما ضغطتُ لوضعتُ حدًا للحرب»[24] لكنه اضطر لقتلها وإنهاء الحرب كبديل عن خسارته هذه الحرب، وخسارة موقفه الإيجابي في ممارسة العنف كتعبيرٍ عن الذات يحوِّل المستعمَر إلى مستعمِر. كما أنه لا يستطيع أن يدخل في علاقةٍ سويّة مع مستعمِره ولا أن يتماهى معه، ولا يمكنهُ كذلك تسوية القضية بتفاهمٍ ودّي، «فمحو الاستعمار إنما هو حدث عنيف دائمًا» و «هو يستهدف تغيير نظام العالم» و«لا يمكن أن يكون ثمرة عملية سحرية أو تفاهم ودّي».[25] وقد أدرك مُصطفى سعيد أن تنازله عن قضيتهِ بالاستجابه لجين مورس في هذه اللحظة هو إعادة تشكيل لهويته على يد مستعمِرته جين مورس، وتثبيت لحقيقة كونه مستعمَرًا للأبد.

من هنا تتشكّل أهمية اللحظة الكاشفة والمحوّلة للهوية. فهو اكتشف أن ما كانه مُصطفى سعيد إنما هو ضدٌّ للحضارة الأوروبية، فإن هي سقطت سقط بدوره، وفقد هويته. وتلك هي أكذوبته. لقد كانت جين مورس أكذوبة أيضًا لأنها تكوّنت بدورها كتشكيلٍ مضادٍ له. واكتشف أيضًا أنه تحرّك في أفق النموذج الفكري للاستعمار، وحمل قيمه الثقافية والفكرية. بالتالي هو – بشكلٍ ما – يمثل امتدادًا لمستعمِره. ولهذا طالب بقتل هذه الأكذوبة الملفقة التي تدعي هويةً وتمثِّل أخرى.

اكتشف سعيد أن إنهاء الاستعمار لا يكون بإخراج المستعمِر أو قتله وإنما يكون بالنيل من قيمهِ الاستعمارية ووجوده المعنوي. من هنا يأتي انعطاف الشخصية ومسار الرواية ليعود إلى بلدتهِ في السودان ويعمل على تطبيق الدرس الذي تعلّمه في لندن؛ أن يستأصل القيم الاستعمارية التي تركها المستعمر وراءه في السودان. وهو لهذا هزأ من الراوي حين أخبره بأنه درس الشعر الإنجليزي، «نحن هنا لا حاجة لنا بالشعر، لو أنك درست علم الزراعة أو الهندسة أو الطب لكان خيرًا»[26] فلا حاجة لنا بثقافة الغرب وقيمه، بل نحنُ في حاجة إلى علومه التي تساعدنا على تطوير بلدنا ومعه ثقافتنا نحن. هذا هو الدرس الذي خرج به.

«قال له ريتشارد: كل هذا يدل على أنكم لا تستطيعون الحياة بدوننا، كنتم تشكون من الاستعمار[…] يبدو أن وجودنا بشكلٍ واضح أو مستتر ضروري لكم كالماء والهواء»[27] هذا بالضبط هو ما عاد مُصطفى سعيد ليواجهه. وهو ما يفسره فانون بأنه قيم الطبقة البرجوازية الوطنية التي تحترف سلوك الوساطة بين رأس المال وبين مالكيهِ الحقيقيين، وتعمل على التأميم لنقل الامتيازات الموروثة من عهد الاستعمار إليها «ها أنتم الآن تؤمنون بخرافات من نوعٍ جديد، خرافة التأميم، الوحدة العربية […] يمكن أن تقبلوا واقعكم وتتعايشوا معه وتحاولوا التغيير في حدود طاقاتكم. وقد كان بوسع رجل مثل مُصطفى سعيد ان يلعب دورًا لا بأس به في هذا السبيل»[28] على أن مُصطفى سعيد لعب فعلا هذا الدور. فهو قد ساعد في تنظيم المشروعات، واستثمر أرباحها، وأقام طواحين الدقيق التي تعود بالخير على الجميع، وتوفر مجهوداتٍ شاقّة، وفتح المحلات التعاونية لخدمة اهل البلد وتطويرهم.[29] هذا الدور الذي يقاوم بهِ استغلال الطبقة الحاكمة المستغلّة والتي تقوم بنفس الدور الاستعماري، قد جعل «العمدة والتجّار يكرهونهُ كراهية شديدة لأنه فتّح عيون أهل البلد وأفسد عليهم أمرهم»[30]

وقد كان صراع مُصطفى سعيد مع الطبقة البرجوازية الحاكمة، ضد الحزب الواحد التي تعمل الحكومة على تثبيت أركانه، هو صراعٌ مع جين مورس أخرى على نحوٍ جديد. بعد أن تشكلّت هويته بشكلٍ أكثر صحيّة. ومع ذلك لم يكن قد برأ من فيروس الاستعمار تمامًا وإن أدرك دواءه وكيفية معالجته. فـ«ذلك النداء البعيد لا يزال يتردد في أذني. وقد ظننتُ أن حياتي وزواجي هنا سيسكتانه»[31] هذا النداء يردده في أحلامهِ ويطارده في كوابيسه «كان يردد في نومهِ كلمات .. مثل جينا، جيني»[32] إنه نداء الحرب، نداءٌ لاستكمال الصراع الذي توقف ولم ينتصر فيه ولم ينهزم. لازالت هويته الضدّية التي يحاول التخلص منها تلح عليهِ ليفعِّلها من جديدٍ ويستكمل نقل الفيروس والمرض، وربما يكون لهذا قد قرر أن يوقف الحرب تمامًا وينهي حياتهِ بدلاً من نقلها إلى أبنائهِ «إذا نشآ مشبعين بهواء هذا البلد [..] فإن حياتي ستحتل مكانها الصحيح كشيءٍ له معنى إلى جانب معان كثيرة أخرى أعمق مدلولا».[33]

على أن النموذج الذي قرره مُصطفى سعيد في درأ العنف بالعنف ووأد فيروس الاستعمار في مهده – وهو ما يحمل روح فرانتز فانون بامتياز – تكرره تلميذة مُصطفى سعيد التي تلقّت عنهُ كل شيءٍ وتغيّرت هويتها بعد زواجها، أو بعد تفاعلها مع شكلٍ مختلف من الحياة من خلال حوار متساوي الأطراف دون استعمارٍ واستغلالٍ وعنف. فقد كان زوجها – الذي استوعب التجربة الاستعمارية وإن سقط فيها – يعاملها معاملة الند للند «زوجتى تعلم بكل مالي، وهي حرّة التصرف. إني أثق بحكمتها»[34] وهي معاملة تختلف تمامًا عن معاملة أهالي البلدة التي تعامل النساء كممتلكاتٍ للرجل، وهذا ما جعلها «امرأة نبيلة الوقفة، أجنبية الحُسن […] امرأةٌ أحسُّ حين ألقاها بالخطر».[35] وجعل أهل البلد يعترفون أنها «تغيرت بعد زواجها من مُصطفى سعيد [..] حتى نحنُ أندادها الذين كنّا نلعبُ معها في الحيّ، ننظر إليها فنجدها شيئًا جديدًا، هل تعرف؟ كنساء المدن».[36]

هذا الشكّل الجديد من النساء في البلدة قد صار محط أنظار رجالها، مساحةٌ من العطاء مختلفة عمّا اعتادوه، ولهذا حارب ود الريس كي ينالها ويتزوجها، كما أحبها الراوي وتمنى لو أن يتزوجها فكلاهما مثل باقي البشر يحملون الفيرس في أجسادهم. «إنني بشكلٍ أو آخر أحب حسنة بنت محمود، أرملة مُصطفى سعيد. أنا، مثله، ومثل ود الريس وملايين آخرين، لستُ معصومًا من جرثومة العدوى التي يتنزى بها جسم الكون» [37] وإن كان مُصطفى سعيد قد خاض تجربته الاستعمارية بطريقتهِ وخرج منها مهشّمًا، فإن الراوي الذي تجاوز التجربة يقاوم الفيروس في روحهِ ويتخطاه، بينما ود الريس يسقط فريسة للمرض، وتصيبة «عقدة الفوقية» فيستسلم لها: «لن أتزوج غيرها، ستقبلني وأنفها صاغر. هل تظن أنها ملكة أو أميرة؟ الأرامل في هذا البلد أكثر من جوع البطن. تحمد الله أنها وجدت رجل مثلي» [38] بل وتتخطى عقدته الفوقية حيّزه الشخصي ليصير الأمر صراعا حضاريّا «إنها ستتزوجني رغم أنفك وأنفها […] الكلام الفارغ الذي تتعلمونه في المدارس لا يسير عندنا. هذا البلد فيه الرجال قوّامون على النساء»[39]. إن بنت محمود لم تتعلم في المدارس مثل الراوي ومثل مُصطفى سعيد، بل إن ود الريس لا يعرف أن مُصطفى سعيد تعلّم في المداس مثل الراوي. لكنه ضمّهما إلى ذات الفئة التي تحملُ هوية مغايرة وسلوكًا ينأى عن سلوك القرية وهويتها التقليدية التي تعيشها، وقد أراد أن يثبت فوقيته على هذه الفئة؛ مستغلاً العوامل الاجتماعية في البلد والتي تمثل قوةً في جانبهِ، ضد الوضع السلبي للمرأة والمستعد لتلقى العنف. بالتالي فإن هذا الزواج هو فعلٌ استعماريّ بشكلٍ أو بآخر. وهو ما كوّن المأساة في عينيّ الراوي الذي أدرك حقيقة القضية منذ الوهلة الأولى: «هذا هو القربان الذي يريد ود الريس أن يذبحه على حافّة القبر» [40] فكما رفض مُصطفى سعيد أن يستعمر العالم الجديد عالمه القديم، يرفض الراوي أن يستعمر العالم القديم عالم بنت محمود الجديد.

على أن بنت محمود التي تلقت هويتها الجديدة من مُصطفى سعيد، تكرر اختياراتهِ وترفض الزواج، وحين تُجبر عليهِ ترفض الاستسلام، بل تخلع من ود الريس أسلحته وتقتل نفسها بعد معركةٍ تشبه الحروب الاستعمارية القديمة بما تحمله من عنفٍ وكراهية «كان البرش الأحمر يعوم في الدم […] بنت محمود معضوضة ومخدوشة في كل شبرٍ في جسمها […] وود الريس مطعون أكثر من عشر طعنات».[41]

هذا الفعل العنيف الذي أنهى الموجات الاستغلالية التي كان يقوم بها ود الريس قد باركته زوجته الأولى، التي تمثِّل أولى ضحاياه وأكثر من مارس ضدها العنف بكثرة زواجه عليها «ود الريس حفر قبره بإيده، وبنت محمود بارك الله فيها، خلصت منه القديم والجديد».[42]

إن موسم الهجرة إلى الشمال رواية تنمذج الاستعمار وتُفعِّله في قالبٍ ديناميكيّ يحملُ حوارً وتفاعلا بين الشمال والجنوب. وهو نموذجٌ يرفض الاستعمار بأشكالهِ المختلفة ويقدم ممارسة فعلية لتجاوز الاستعمار من خلال، مقابلة العنف الاستعماري بالمقاومة العنيفة، ويؤكد أن نهاية الاحتلال لا تتأتى برحيل الغازي أو موته، وإنما بالنيل من قيمه الحضارية وهويته الثقافية التي تتغلغل في وجود المستعمَر وحضارته.

إن زواج مُصطفى سعيد بجين مورس، مثله مثل زواج ود الريس بحسنة بنت محمود، شكلا مصغرًا للاستعمار، لأنه بُني على عقدة الفوقية، وفشل لأن المستغَّل في كل حالةٍ رد على عنف الاستغلال بعنف المقاومة. مما أدى إلى انفجار الحرب بين الطرفين في كل حالة، ثم نهايتها دون منتصر.


[1] مجموعة مؤلفين، الطيب صالح عبقري الرواية العربية، دار العودة، 1976 ، صـ76.

[2] يضع رجاء النقاش الرواية مع روايات «عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم، و»قنديل أم هاشم» ليحيى حقّي، و»الحي اللاتيني» لسهيل إدريس، ويعترف للرواية بالتميز عما سبقها.

[3] جابر عصفور، «عندما نقرأ موسم الهجرة إلى الشمال» مجلة العربي العدد 562، 2005.

[4] مجموعة مؤلفين، المرجع السابق، صـ41.

[5] الطيب صالح، موسم الهجرة إلى الشمال، دار العودة، ط.14، 1987، صـ37.

[6] جورج طرابيشي، شرق وغرب رجولة وأنوثة،دار الطليعة، بيروت لبنان، 1997، صـ 167.

[7] جورج طرابيشي، المرجع السابق، صـ170.

[8] جورج طرابيشي، المرجع السابق نفسه.

[9] وفقًا للتحليل الفاعلي الذي يعتبر نظرية في طبيعة الإنسان كفاعلية تعمل على الإنتاج والإثراء الشامل للحياة، فإن بنية العقل أو نسق الوعي هو الذي يحدد فكرة الإنسان عن نفسهِ وأشكال استجابتهِ وتفاعله مع العالم. ويتكون العقل البشري من ثلاث بنيات: بنية العقل التناسلي (الأهمية والأولوية للبقاء عبر النسل، فالإنسان كائن وظيفته التناسل) وبنية العقل البرجوازي (الأولوية للإنتاج واستحواذ الخيرات والموارد المادية)، وبنية العقل الخلّاق (الإنسان خلّاقًا وظيفته الإنتاج والإثراء الشامل للحياة). للمراجعة: الشيخ محمد الشيخ، التحليل الفاعلي نحو نظرية حول الإنسان، دائرة الإعلام والثقافة، الشارقة، 2001.

[10] الشيخ محمد الشيخ، «موسم الهجرة إلى الشمال مقاربة تحليل فاعلي» في كتابه الإنسان والتحليل الفاعلي، مطبعة الوعد، الخرطوم، 1989

[11] نعتمد في هذه القراءة على: فرانز فانون، معذبو الأرض، تر: سامي الدروبي؛ جمال أتاسي، دار القلم، ب.ت.، بيروت لبنان.

[12] الطيب صالح، المرجع السابق، صـ36.

[13] الطيب صالح، المرجع السابق، صـ97.

[14] الطيب صالح، المرجع السابق، صـ98.

[15] الطيب صالح، المرجع السابق، صـ98.

[16] الطيب صالح، المرجع السابق، صـ34.

[17] الطيب صالح، المرجع السابق، صـ 145.

[18] الطيب صالح، المرجع السابق، صـ34.

[19] الطيب صالح، المرجع السابق، صـ 157.

[20] الطيب صالح، المرجع السابق، صـ162.

[21] الطيب صالح، المرجع السابق، صـ163.

[22] الطيب صالح، المرجع السابق، صـ162.

[23] الطيب صالح، المرجع السابق، صـ165

[24] الطيب صالح، المرجع السابق، صـ163.

[25] فرانز فانون، المرجع السابق، صـ39.

[26] الطيب صالح، المرجع السابق، صـ13.

[27] الطيب صالح، المرجع السابق، صـ64.

[28] الطيب صالح، المرجع السابق، صـ63.

[29] الطيب صالح، المرجع السابق، صـ104.

[30] الطيب صالح، المرجع السابق، صـ105.

[31] الطيب صالح، المرجع السابق، صـ70.

[32] الطيب صالح، المرجع السابق، صـ94.

[33] الطيب صالح، المرجع السابق، صـ70.

[34] الطيب صالح، المرجع السابق، صـ69.

[35] الطيب صالح، المرجع السابق، صـ92.

[36] الطيب صالح، المرجع السابق، صـ104.

[37] الطيب صالح، المرجع السابق، صـ107.

[38] الطيب صالح، المرجع السابق، صـ 100.

[39] الطيب صالح، المرجع السابق، صـ 101.

[40] الطيب صالح، المرجع السابق، صـ92.

[41] الطيب صالح، المرجع السابق، صـ128.

[42] الطيب صالح، المرجع السابق، صـ130.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

الطيب صالح، موسم الهجرة إلى الشمال، دار العودة، ط.14، 1987.
الشيخ محمد الشيخ، «موسم الهجرة إلى الشمال مقاربة تحليل فاعلي» في كتابه الإنسان والتحليل الفاعلي، مطبعة الوعد، الخرطوم، 1989
الشيخ محمد الشيخ، التحليل الفاعلي نحو نظرية حول الإنسان، دائرة الإعلام والثقافة، الشارقة، 2001.
جابر عصفور، «عندما نقرأ موسم الهجرة إلى الشمال» مجلة العربي العدد 562، 2005.
جورج طرابيشي، شرق وغرب رجولة وأنوثة، دار الطليعة، بيروت لبنان، 1997.
فرانز فانون، معذبو الأرض، تر: سامي الدروبي؛ جمال أتاسي، دار القلم، ب.ت.، بيروت لبنان.
مجموعة مؤلفين، الطيب صالح عبقري الرواية العربية، دار العودة، 1976.
عرض التعليقات
تحميل المزيد