بابيشا هو لفظ سوقي يستخدمه ذكور المجتمع الجزائري لمعاكسة المرأة الحسناء. حيث يُرجع البعض أصوله للتّواجد العثماني في الجزائر، أين كانت كلمة باشا مشاعة في الأوساط السياسيّة المقرّبة من حاشية السلطان.
هو نفس اللّفظ الذي انتقته المخرجة مُنية مدّور كعنوان لعملها السينمائي، للعودة بالمتلقّي إلى ذاكرة الدّم، التي علقت بأذهان الجزائريين، وجعلتهم يعيشون تقهقرًا يُلازمهم لحدّ الساعة، لا يختلف كثيرًا في ظاهره عن التقهقر الدلالي الحاد، الذي عرفته كلمة باشا.
تنطلق مجريات الفيلم من إقامة جامعيّة للبنات بالجزائر العاصمة في تسعينات القرن المنصرم، أين يُقمن مجموعة من الفتيات، يأبين الانصياع بجمالهنّ وأرواحهنّ المَرحة، لحالة الذُعر التي عرفها المجتمع الجزائري آنذاك. بطلتهم شابّة تدعى نجمة تعشق الحريّة وتحلم بأن تصبح مُصمّمة أزياء عالميّة، الشيء الذي يتسبّب لها في الكثير من الصِّراعات، خاصة بعد مقتل أختها على يد امرأة متطرّفة أمام ناظريها. لتنطلق الشابة المُلّقبة من طرف أبناء حيّها البابيشا في رحلة مقاومة وتُقرِّر تنظيم عرض أزياء داخل الإقامة الجامعيّة للبنات، بلباس تقليدي بسيط يسمى الحايك كنّ نسوة الجزائر يَلبسنه إبّان حرب التحرير، لإخفاء المُتفجّرات التي كانت تستخدم لمُقاومة المستعمر.
رمزيّة اللِّباس التي تتجلّى في مُقاومة المرأة الجزائريّة إبّان الحقبة الاستعماريّة وربطها بمقاومة المرأة للتطرّف ومشاهد الدم خلال العشريّة السوداء في إِحالة إلى الماضي، لا تقلُّ شأنًا عن رمزيّة الاسم الذي اختارته المخرجة لشخصيّة البطلة في حدِّ ذاتها.
فنجمة الّتي رفضت مغادرة الجزائر رفقة صديقها، وفضّلت البقاء و النِّضال بطريقة حضاريّة من أجل السلام والحريّة، رغم ما طالها من مُحاولات اغتصاب وتدنيس داخل وخارج الجامعة؛ تشبه لحدّ ما نجمة الرّوائي كاتب ياسين، الّتي رسم من خلالها جزائر الاستعمار في صورة جدليّة، تظهرها تارةً مُنهكة و تائهة بين عدّة أطراف، ثمّ تتجلّى تارةً أخرى ناصعة الجمال، تلتمس طريق المستقبل.
هذا ما يحدث لبطلة فيلم بابيشا الذي تُجسّده الممثّلة لينا خدري. تظهر تائهة غداة وفاة أختها، محطّمة معنويًّا، بعدما تعرّضت لمحاولة اغتصاب من قبل حارس الإقامة الذي كان يريد أن تُسلّمه جدسها، مقابل عدم الوشاية بها للإدارة التي كانت تمنع خروج الطُلّاب ليلًا.
لكن تأبى بطلة الفيلم الرُّضوخ للأمر الواقع، وبدل تسليم جسدها مقابل استفزازات، تصنع مِنه رمزًا للحريّة والجمال، بتنظيم عرض أزياء، رمزيته لباس تقليدي يحمل معاني المقاومة والنضال. من خلال هذه الصور الفنيّة الراقية، يُمكنُنا أن نرى جزائر العشريّة السوداء وهي تصارع من جهة، موجة التطرُّف ونزعاتها الأصوليّة. ومن جهة أخرى حكم الدكتاتوريّة الذي صنع ثم استغلّ العنف، لاغتصاب الجزائر وجعلها كعكة تتقاسمها مجموعة على حساب شعب، باسم محارب الإرهاب.
لكن رمزية نجمة والجزائر الرافضة للانبطاح أمام أعدائها، شابتها قضية موازية لا تقلّ شأنًا عن الأولى. هي قضيّة الحرّيات الفرديّة وصورة المرأة في المجتمع الجزائري، حيث تم توظيفها في بشكل تعسُّفي مبالغ فيه، وصل في بعض الأحيان إلى حدّ الترويج لأيديوجيات أنثويّة متطرّفة، لا ترتقي لجزائر الغد، الّتي يرجى أن تسعى الجميع على اختلافاتهم. فعلاوة على غياب الشبه التّام للعنصر الذُكوري في الفيلم؛ صُنعت حريّة البطلة نجمة ورفيقاتها على حساب حريّة فئة محافظة من المجتمع الجزائري، في صورة ثنائيّة تنافريّة.
فلقد قدّم الفيلم صورة عدائيّة للمرأة المحجّبة، حيث أظهرها عنيفةً ومنغلقةً على أفكارها، غير متقبّلة للحوار. كما رُوّجت للمشاهد على أنّها ساذجة، يسهل التلاعب بجسدها ومشاعرها العاطفيّة، وذلك من خلال شخصيّة أميرة هلدا. كلّ هذا في مقابل المرأة غير المحجّبة، المُنفتحة على جميع الأفكار، صاحبة الفكاهة، الكيّسة الفطنة، التي لا تنطلي عليها حيلُ الذئاب من الرجال.
تنتهي أحداث الفيلم على واقعة مأساوية. فبعدما وفّقت نجمة بإقناع مديرة الإقامة الجامعيّة لتنظيم عرض أزياء، تَهجم جماعة مُسلّحة ليلة العرض لتقتل جميع من في القاعة، عدا نجمة وبعض صديقاتها اللّواتي فررن بجلدهنّ نحو المجهول، يلتمسن طريق المستقبل، ومعهن جزائر كاتب ياسين ومنية مدور، دون أن نعلم هل ستخرج من المجهول إلى مستقلبها المنشود، أم سيستمرّ مسلسل الاغتصاب؟
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست