1)
مؤكد أني لا أحن له شخصيا، ومؤكد أني أحن لأيامه قطعا؛ فأيامه هي طفولتي ومراهقتي وبعض شبابي، فكيف لا يقع الحنين؟
والحنين قادني لأصبح أحد مدمني أوبريت: “اخترناه”، وتحديدا تلك الجملة المخلصة الفذة التي تصف بدقة هوان الدنيا على المصريين، “واحنا معاه لما شاء الله”!
كيف لا أحن؟ وصوره كانت في كل مكان، وخطبه في التلفاز القديم، في بيتنا القديم، واسمه مذكور بالسوء سرا؛ كلما مرت علينا ضائقة مالية، وفي الأعياد، كنت أسمع الجميع يهنئه، وأشاهده في صلاة العيد، لدرجة أني اعتقدت أن العيد الذي لن يصلي فيه لن تحسبه الدولة، وبالتبعية نحن، وسيجرونا مجبرين إلى مدارسنا وأعمالنا؛ لأنهم ألغوا العيد وإجازته.
وعندما استقال الخالع ـ وليس المخلوع ـ محمد حسني مبارك من حكمنا ليل 11 فبرير 2011، لم أشعر بوخزة المودع لشاهد حيوي على أيامي، ولكن تدريجيا اكتشفت ـ بالرغم من كل جرائم الرجل ـ أني فقدت شيئا، أشتاق لسماع حواراته القديمة بنفس لهفة سماع تتر مسلسل المال والبنون، وأغنية “لولاكي”، ورؤية “بانك” مصطفى قمر الثمانينات وقميص” علِّي الضحكاية”، واسترجاع مذاق الحلوى الرخيصة، وفساتين الطفولة ذات الذوق الغير مفهوم.
لقد اكتشفت أن أيام مبارك هي أيامي، وللأسف “هي أيامي الحلوة”؛ لأنها الماضي، ونحن نحِن لكل ماض، مهما بلغت قسوته.
لقد كان أقسى شيء فعله مبارك ـ بالنسبة لي ـ هو أنه حدث في ماضينا.
2)
معضلتي معها أني سمعتها قبل أن أراها، وأحببت صوتها الرقيق المظلوم بإيقاع أغانيها، ثم رأيتها واكتشفت أنها محاولة مصرية خالصة لمواجهة العري اللبناني بآخر بلدي.
وأنا أحب روبي، وهي مشكلة شديدة التعقيد: أن تحب فتاة مصرية روبي؛ فكم من نظرات دهشة تلقيتها، عندما أسرب هذه المعلومة لأحدهم، وكأني مسئولة عن كل شيء، بدء من “طشت” نانسي عجرم، مرورا بسرير إليسا، إلى ما تفعله هيفاء وهبي.
وروبي كما مبارك، بدأت حياتها الفنية صدفة أو كرد فعل لشيء ما موجود على الساحة، تماما كمبارك، الذي جاء كنائب لرئيس جمهورية كان يبحث عن شخص وديع يملأ فراغ المنصب، ثم عندما قُتل الرئيس جيء به لسد الفراغ أيضا.
والاثنان رقصا. هي على إيقاع الطبلة، وهو على جثثنا.
ثم انسحبت روبي من مشهد التعري؛ ربما لأنها أعادت حساباتها، أو لأنها حققت الشهرة التي سعت إليها، وبالتالي أصبح لديها فرصة لإظهار موهبتها، دون جسدها، أو ربما لأنها انفصلت عن مخرج كليباتها: شريف صبري، المهم أنها توقفت، وربما تعود.
ومبارك توقف هو الآخر؛ ربما لأنه أعاد حساباته، فاكتشف أن هذا الشعب لا يستحقه، أو لأن من اكتشفوه قرروا التوقف عن إخراج كليباته السياسية، أو لأن حساباته في أن يصبح ابنه رئيسا كانت خاطئة، لكن المؤكد أننا لم نكن مؤثرين بدرجة كافية في لعبة بقائه من عدمه.
الاثنان توقفا عن العري، وبدآ مرحلة جديدة.
بدأت روبي في إظهار موهبتها التمثيلية، خاصة في مسلسلي: بدون ذكر أسماء، وسجن النسا، ونسي الناس كل ماضيها الجسدي، بل إن المجلس القومي للمرأة كرمها على أعمالها الدرامية، وهؤلاء الناس ترحموا على تعري روبي، بعدما تابعوا عصر التعري “اللي على أصوله” الحالي.
ومبارك عندما بدأ مرحلة اللا رئيس، وشُوهِد في قفص المحاكمة، نسي الناس ماضيه الأسود، وبدءوا يركزون مع كبر سنه، ومترو الأنفاق الذي أنشئ في عهده، والكباري التي أقامها، والمعارضة التي كانت تشتم نفسها، وأشياء أخرى، وهؤلاء الناس ترحموا على سواد مبارك؛ بعدما ذاقوا مرحلة “الدولة البلاعة” الحالية.
3)
إن كل بؤس العالم يكمن في أن أحن لحزني على مشاهد غرق عبارة السلام فبراير 2006 ، وغيظي من مبارك وهو يتابع مباراة المنتخب الوطني في نهايات كأس الأمم الأفريقية، بعد يومين من الحادث.
أنا أحن لحزن الماضي؛ لأني لم أعد قادرة على حزن الحاضر.
4)
وفي مبارك وروبي، فإن الأول تفوق على الثانية، كونه توقف بعد أن ترك وراءه من يمكنهم “سواقة” مصر بطريقة أكثر انحرافا، أما روبي فتوقفت، ولم تترك وراءها سوى ستة كليبات.
5)
بأحد الشوارع المؤدية لميدان التحرير، رأيت روبي في يوم من الثمانية عشر يوما، تهتف ضد مبارك، وحقيقة اندهشت، وكانت هذه أولى اندهاشاتي التي لم تنقطع يوما حتى الآن.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست