بمجرد تنحي مبارك، بدأ البحث عن “كنز إستراتيجي” جديد، يضمن مصالح الكبار في الداخل والخارج. بعبارة أدق، كانوا يبحثون عن حسني مبارك جديد. لقد كان ذلك حلمًا!

لم يكن مطلوبا ممن سيلعب دور مبارك، غير تحقق “معادلة الاستقرار” مقابل الدعم الكامل وغير المشروط. تلك المعادلة التي مكنت مبارك من البقاء في الحكم لمدة ثلاثين سنة. وذلك بتحقيق شرطين أساسيين: الاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي.

كانت مذبحة رابعة العدوية أولى خطوات صناعة الاستقرار السياسي. هكذا جاءت النصيحة: خطوتك الأولى في أن تصبح حسني مبارك؛ هي ذبح القطة للشعب. فالقسوة والدماء ستقتل فكرة الثورة في نفوس المصريين، وتفقدهم أي أمل في التغيير.

أما تحقيق الاستقرار الاقتصادي، فأمر سهل؛ يبدأ بضخ مليارات الدولارات الكاش من الإمارات، والسعودية، والكويت. ثم الإعلان عن مشاريع اقتصادية عملاقة، تمنحك شرعية الإنجاز. عليك توفير القليل من الخبز للفقراء. ثم وزع المال والرشاوي بسخاء على القضاة والجيش والشرطة.

كان الحلم يكبر في مبارك الجديد، مع كل قطرة دم تسيل، ومع كل إعلان عن مشروع اقتصادي جديد. فهكذا كان مبارك: يد تبني، ويد تقمع. يد تحمل العصى، والأخرى تقدم الجزرة. ولكن بعد مرور عامين، بدأ الداعمون يشعرون بأن هذه الخطة لم تحقق حلم مبارك المنشود؛ وإنما صنعت مخلوقا غريبا مشوها، لا يشبه مبارك في شيء.

ليس الشعب وحده من بدأ بالتذمر والسخرية، من المشاريع الاقتصادية الفاشلة (الفنكوش)، وإنما الداعمون أنفسهم. ففي الوثيقة المسربة لمحمد بن زايد (نشرتها ميديل ايست آي)، نرى خيبة الأمل هذه واضحة. الأمر الذي دعا بن زايد إلى القول: (ماذا يظن هذا الرجل؟ هو يظنني ماكينةATM  للكاش (ماكينة الصرف الآلي)؟ إذا كنت أدفع، فلابد أن أحكم).

لا يقتصر الأمر على قلق التجار من الداعمين مثل بن زايد، والذي لا يهمه إلا جانب البيزنس فقط. ولكن الأخطر هو الفشل في تحقيق الاستقرار السياسي. فهذا سفير بريطانيا الأسبق لدى الأمم المتحدة السير جيرمي غرينستوك، يصرّح أمام البرلمانيين البريطانيين، بأن الوضع في مصر “كارثة على منطقة الشرق الأوسط بأكملها”، وأنه “غير قابل للاستمرار”. وغريتستوك معروف بأنه أكثر الدبلوماسيين الغربيين حنكة وخبرة. أضف إلى ذلك التقارير الصحفية والسياسية التي تنبئ عن فشل الحلم بأن يكون السيسي هو مبارك الاستقرار.

يعبر بعض المصريين عن عودة فلول الحزب الوطني للسيطرة على الحياة السياسية والاقتصادية في مصر، بعودة دولة مبارك. ومن يتأمل حقيقة الوضع يدرك بأن دولة مبارك لم تعُد، وإنما فقط عادت بعض المظاهر المرتبطه بها، من فساد وبلطجة وقمع. نعم؛ كانت هناك محاولة (غشيمة) لاستعادة  دولة مبارك، ولكنها لم تفشل فقط، بل فككت الأركان الصلبة التي قامت عليها دولة مبارك.

إن شرعية منصب الرئيس، هي أقوى ركن في الدولة. ولقد ظل مبارك رئيسًا لمصر لمدة تقارب الثلاثين عامًا دون أن يختلف أحد على شرعيته أو ينازعه أحد هذه الشرعية. فالمعارضة بكل أطيافها الإسلامية واليسارية والليبرالية، لم تكن تجادل في “شرعية” الرئيس. (وإن كان البعض يعتقد بفقدان مبارك للشرعية نظريًّا، إلا أنه لم يكن لذلك صدى حقيقي على الواقع).

أما الآن فهناك قطاع من الشعب المصري – قل أو كثر- لا يعترف بشرعية الشخص الذي يتولى منصب رئيس الجمهورية. وسقوط الشرعية، هي أول مسار يمكن أن يدق في نعش أي نظام. فما بالك إذا كان النظام القائم، قد ولد بهذه العاهة!

الدليل الثاني على تفكك أركان دولة مبارك، هو سقوط هيبة القضاء في النفوس. كان مبارك بحكم الخبره والتجربة ذكيا في عدم التدخل بشكل فج وواضح في عمل القضاء. وكان حريصًا على تجنيب القضاء المدني معاركة مع معارضيه، وإذا أراد تأديب أحدهم، فإنه يلجأ إلى القضاء العسكري. هذه السياسة الذكية أعطت للقضاء نوعًا من الاستقلال الشكلي، وحفظت له هيبته في نفوس المواطنين. فكان كل مواطن يشعر بأن القضاء سينصفه، ويعطيه حقه. كان القضاء ينصف الإخوان، وغيرهم من المعارضين، في كل معاركهم مع النظام تقريبا. أما الآن فمن يلجأ إلى هذا القضاء؟ لقد سقط سقوطا مدويا، وسقط معه ركن قوي من أركان الدولة.

وأخيرًا، فإن انهيار الصورة المثالية للجيش، مؤشر خطير يهدد بقاء أي نظام. وهذا البند لا يحتاج إلى كثير من الشرح ولكني أسأل القارئ سؤالًا واحدًا: كيف كنت تنظر إلى الجيش المصري في يناير 2011، وكيف هي نظرتك الآن؟ لقد تحول المقدس إلى مدنس، وتورط الجيش في لعب دور الشرطة في القمع والتعذيب للمواطنين. لقد كانت قدسية الجيش في نفوس المصريين، ركيزه أساسية في استمرار دولة مبارك. يكفي أن تعلم أن هناك قطاعا من المصريين ينظرون الآن إلى الجيش كما كانوا ينظرون إلى الشرطة في عهد مبارك. الأمر الذي انتهى بسقوط الشرطة، لأنها سقطت أولا في نفوس المواطنين. وما أسهل السقوط إذا سقطت الحواجز النفسية.

ما تبقى من دولة مبارك هو مجرد أشباح؛ ونحن نعيش مع أشباح دولة مبارك. حتى أولئك الذين حضروا العفريت، باتوا يصرخون: انصرف.. انصرف!

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد