حين قرأت كتاب (كنت رئيسًا لمصر) أول مرة كدت أجهش بالبكاء من فرط تأثري بالظلم الذي وقع على محمد نجيب، ولكن بعد إعادتي قراءة الكتاب مرة أخرى بعد عدة سنوات، اكتشفت أن تأثري كان يرجع إلى حداثة سني، ومحدودية معلوماتي، وضيق أفقي، لأني حين أعدت قراءة الكتاب، اكتشفت أن الرئيس الراحل كان ينقصه أن يركب إلى نفسه جناحين، يتحول بهما إلى ملاك لا يخطئ، وأنا هنا لا أستطيع أن أنكر الظلم الذي وقع على الرجل، لأنه بالفعل وقع عليه ظلم فج، ولكن هو ذاته شارك الضباط الأحرار في بعض الجرائم التي قاموا بها خلال الفترة التي كان فيها رئيس مجلس قيادة الثورة، ومن الجرائم التي قاموا بها؛ ما حدث لمحمد البقري ومصطفى خميس.

لا أستطيع أن أضيف الجديد في حكاية البقري وخميس، فيكفي أن تقوم بكتابة اسمهما على محرك البحث (جوجل) لتعرف ما حدث لهما، ولكن إذا لم تكن تريد أن ترهق نفسك، فحكايتهما بإيجاز، أنهما عاملان في مصنع كفر الدوار للغزل والنسيج، خرجا مع عمال مصنع كفر الدوار في مظاهرة سلمية تندد بقرار نقل إدارة المصنع لزملائهما لمصنع كوم حمادة بدون إبداء أسباب، وبتدني أجورهم والحوافز، وبتدهور سكن العمال، وذلك في 12 أغسطس (آب) 1952م، أي بعد ما حدث في 23 يوليو (تموز) بأيام قليلة، لم ينصت مجلس قيادة الثورة آنذاك لمطالب العمال، بل تم القبض على مئات العمال بما فيهم من كان عمره لم يتجاوز الحادية عشر عامًا، وتقديمهم إلى محاكمة عسكرية هزلية، حكم على عشرات العمال آنذاك بالأشغال الشاقة المؤبدة، وعلى محمد البقري (19 سنة) الذي كان يعيل والدته وأبنائه الخمسة، ومصطفي خميس (18) سنة، بالإعدام وذلك في ظل صراخهما الذي لم يحرك في ضمير هيئة المحكمة آنذاك ساكنًا «يا عالم ياهوه .. مش معقول كده.. هاتوا لنا محامي علي حسابنا حتى .. داحنا هتفنا بحياة القائد العام .. داحنا فرحنا بالحركة المباركة .. مش معقول كده»، واستمرا في صراخهما حتى قبل تنفيذ الحكم عليهما «حنموت واحنا مظلومين».

لم يجد مصطفى خميس ومحمد البقري آنذاك من يصدقهما، حتى المحامي الذي دافع عنهما وهو موسى صبري قال في معرض الدفاع عنهما كلمتين أدانتهما أكثر ما دافعت عنهما، وكذلك الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو) وصمت الحركة بأنها حركة وراءها حركة معادية للجيش، بل أن الأديب سيد قطب الذي راح ضحية لهذا النظام فيما بعد، في القضية التي عرفت بتنظيم 1965م، شاطرهم في تأليب الرأي العام على عمال كفر الدوار وقال عن المظاهرة السلمية أنها «حركة العمال وراءها أخطبوط الرجعية والاستعمار» طبقًا لما ورد في كتاب أحمد شرف الدين «كفر الدوار 1952م واستشهاد خميس والبقري».

بالرغم من كل هذا التجني عليهما؛ كانت الاتهامات التي وجهت إلى خميس والبقري جميعها ملفقة، وذلك بشهادة رئيس مجلس قيادة الثورة محمد نجيب الذي قال عنها في كتابه (كنت رئيسًا لمصر): «وجدت على مكتبي أكوام من التقارير المخيفة، التي تفرض علينا الخوف من الاضطرابات العمالية، وتطالبنا بالضرب على يد كل من يتصور إمكانية قلب العمال علينا، وأحسست أنها تقارير كاذبة وأنها كتبت بنفس الأسلوب الذي يكتب به البوليس تقاريره إلى الملك، لقد تغير العهد وتغير الرجال، لكن أسلوب هذه التقارير لم يتغير وحضر مصطفى خميس إلى مكتبي بالقيادة، دخل ثابتًا مرفوع الرأس وكأنه في حفل زفاف، طلبت منه أن يتعاون مع المدعي العام، ويشرح له الدوافع التي جعلته يفعل ذلك، أو ليقل لنا من وراءه لكن قال في إصرار: لا أحد ورائي.. وقال في إصرار: أنا لم أرتكب ما يستحق الإعدام، فلم أجد مفرًا من التصديق على الحكم».

وقال أيضًا في كتابه «كلمتي للتاريخ»: «إنني التقيت بهما وكنت مقتنعًا ببراءتهما، بل وكنت معجبًا بشجاعتهما ولكن صدقت على حكم إعدامهما تحت ضغط وزير الداخلية – جمال عبد الناصر – لمنع تكرار مثل هذه الأحداث».

وأنا الآن الذي أوجه السؤال للجنرال محمد نجيب؛ ما هي الجدوى مما ذكرته؟ وما المطلوب الآن ممن يقرأ مذكراتك؟ هل المطلوب مني كقارئ لها أن أدخل في نوبة من البكاء والسب لمجموعة البكباشية الذين كنت تترأسهم وأقول: «يا حرام شارك في قتلهما غصب عنه على الرغم من أنه كان سيد العارفين أنهما أبرياء وأن الاتهامات الموجهة إليهما ملفقة».

يا سيادة اللواء مهما حاولت التنصل من الجريمة التي ارتكبت في حق عمال كفر الدوار لا سيما البقري وخميس، ستظل دماؤهم تلاحقك أنت وشلة البكباشية الذين أيدوا الظلم الذي وقع عليهما إلى يوم الدين.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد