من دخل خيمة السيد مقتدى الصدر فهو آمن، ومن يتخلف فسيكون نادمًا!!
كان الحكم الديني في العراق على وشك السقوط بعد تجربة 13 عامًا من الفشل، لولا إعلان زعيم التيار الصدري السيد مقتدى عن عزمه للاعتصام هو وأنصاره قرب المنطقة الخضراء وسط بغداد، ما ساهم في إنقاذ تجربة حكم الطوائف من حيث يدري أو لا يدري.
حيث تسبب في تحجيم دور الحراك المدني وتقزيم تأثير ثمار ثمانية أشهر فعلية من الاحتجاجات عبر الدعوة للتظاهر في ذات الأوقات والأماكن التي اعتاد الليبراليون التجمهر فيها، لتعود الأغلبية الصامتة للتقوقع على نفسها وإحجامها عن المشاركة أو التأييد لأي مشروع إصلاحي تتبناه كتلة دينية.
مشاهدة لقطات دخول الصدر عبر بوابة المجمع الحكومي والتفاف أتباعه حوله وتقبيل قائد قوة حماية المنطقة الخضراء الفريق «محمد رضا» ليديه، فضلًا عن إعلانه بأنه ممثل وحيد للشعب، أعاد للأذهان ذاكرة ما شاهده العالم لمراسيم نزول الخميني من الطائرة الفرنسية في شباط من عام 1979، لتتحول إيران في ليلة وضحاها من دولة علمانية بحتة إلى جمهورية دينية اعتمدت أيديولوجية ولاية الفقيه التي حملت شعار الإصلاح، فيما كان الخراب رفيقًا لثورة المحافظين منذ انطلاقها وحتى اليوم.
السيد الصدر نصب خيمته ذات اللون الأخضر والشبيهة من حيث التصميم الهندسي بما يتناغم مع ثقافة عقول الجماهير من انطباعات صورية لخيام سيدنا الحسين عليه السلام قرب كربلاء، ثم رافق الأمر تناقل لمشاهد الصدر وهو يتوضأ للصلاة بأواني بسيطة، أو يتناول وجبة طعام متواضعة، وغيرها من اللقطات التي يمكن إدراجها ضمن بروباجندا بنكهة دينية وطقوس شعائرية إيحائية، في سلوك عده البعض محاولةً لكسب الأعداء قبل المترددين وتنقية الأذهان وما تعلق بها من موروث لمجمل مواقف وتصريحات سياسية ومذهبية اعتمدها أبرز قادة التيار الصدري من الخط الأول طوال سنين مضت كانت تدعوا للاجتثاث والملاحقة والتصفية الجسدية لمن وصفوا بأنهم «نواصب أو بعثيون»، كما جاء على لسان «حازم الأعرجي» أحد أبرز المقربين من الصدر حين دعا للقتل من دون الحاجة لفتوى، فضلًا عن غريم الصدر «قيس الخزعلي» قائد ميليشيا عصائب أهل الحق قبل أن ينشق عنه، وهي دعوات كانت سببًا لاقتتال طائفي وحرب أهلية دفع الآلاف من المدنيين أرواحهم ثمنًا باهظًا لها.
يتحمل السيد مقتدى الصدر دون غيره مسؤولية الكثير من الفوضى التي عصفت بالبلاد منذ عقد من الزمن وحتى اليوم، فقد ورث عن أبيه وجده جمهورًا واسعًا من المقلدين والمؤيدين للتيار الشيعي العروبي الذي كان رافضًا للتغول الإيراني في ظل وجود ثلاث مرجعيات غير عربية من أصل خمسة في العراق.
وهذا ما أكده استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «ثنك تانك هاوس» البريطانية، حين أكدت أن 78% من شيعة العراق قلقون من ازدياد النفوذ الإيراني في بلادهم، كما أن 88% من العراقيين الشيعة غير راضين عن القيادات الدينية المرتبطة بإيران، حتى ذهب البعض إلى حد مناشدة الأمم المتحدة والدول العربية لتخليص العراق مما وصفوه بالأخطبوط الإيراني كالمرجع الديني الصرخي.
مقتدى لم يحسن قيادة جمهوره، بل إنه خذله في أكثر من مكان وتسبب في استنزاف طاقاته الثورية من خلال مشاركة التيار الصدري في عملية سياسية فاشلة تارة، وامتصاص غضب الشارع عبر الدعوة للتظاهر عقِب أحداث عدة كوسيلة للتنفيس تارةً أخرى.
إلى ذلك، فلم يحسن السيد الصدر أيضًا اختيار مقربيه ومستشاريه، ومن المسلم به أنه إذا فسدت الحاشية فسد النظام، وإذا فسد النظام فسد المؤتمنون وبالتالي فسدت الرعية وتفشى الظلم وساد قانون الغاب.
وهذا ما يفسر أسباب حل جيش المهدي الذراع العسكري للتيار واستبداله بلواء اليوم الموعود انتهاءً بكتائب سرايا السلام، فضلًا عن تجميد نشاط الأخير في أكثر من مناسبة على أثر ما تسرب من مقاطع مصورة توثق جرائم وانتهاكات ارتكبتها فصائل من الحشد الشعبي، والتي أحرجت الصدر ودفعته لوصفها بالأعمال الوقحة واللا مسؤولة، وهو ما يدل أيضًا على أن السيد مقتدى لم يكن يومًا قادرًا على احتواء قياداته وتهذيب سلوكياتهم!
ولربما يتساءل باستغراب بعض الرافضين للتصعيد الأخير من قبل الصدر عن سبب التوقيت الآن، خاصةً وأن الحكومة التي يقودها التحالف الوطني الشيعي منشغلة في مقاتلة تنظيم الدولة على أكثر من جبهة، ما عدوه بأنها خدمة تقدم للتنظيم الذي انحسر نفوذه تحت ضربات التحالف الدولي بقيادة أمريكا، فضلًا عن سياسة الأرض المحروقة المتبعة من قبل قوات الجيش والقوى المساندة له، ولكن ما غفل عنه البعض أن الصدر ومن معه تنبهوا لحقيقة مفادها، أن أعداء الأمس حلفاء اليوم من البدريين وأتباع الحكيم سيستأثرون بحكم الأغلبية عِبر التحالف مع حزب الدعوة ليتم إقصاء الصدريين الذين لطالما كانوا غصة في فم طلاب السلطة هؤلاء، لا سيما وأن بوادر انتهاء الصراع بين الشيعة ككل، وجبهة ما يصفونهم بالمتشددين السنة بات قريبًا، وهو ما سيؤدي بالتالي لإنهاء حالة الارتصاص والتوحد الشيعي، والتفات الشيعة لصراعاتهم الداخلية وعودة الخلافات والتنافس فيما بينهم لدرجة الاقتتال والمواجهات المسلحة.
وكعادة الأنظمة العربية، فليس لها عقل إستراتيجي ولا مشروع مستقبلي، يمكّنها من التعامل مع الحدث لتتقرب من الحركات الشيعية العروبية، فلطالما عانت هذه الأنظمة من القصور لتعتمد على نخب مزيفة منقطعة الصلة عن مجتمعاتها، كما هو الحال مع الحركات الإسلامية السنية الحقيقية والمؤثرة على الساحة لتستبدلها بشخوص أدعت التمثيل وهي لا تملك عمقًا شعبيًّا أكثر من أفراد عائلتها فقط.
لهفة الكثير من العراقيين لإنقاذ بلدهم، جعلهم يؤمنون بما هو غير منطقي، فغالوا كعادتهم وسارعوا في وصف مقتدى الصدر بأنه «غاندي العرب»، وهو ما يعكس التعطش الشعبي لخلق أسطورة وطنية يتشبثون بها، ولكن لم يحك لنا التاريخ أن غاندي قد حاز مناصب حكومية وتزعم كتلة برلمانية، كما هو الحال مع كتلة الأحرار الصدرية التي تمتلك نحو 40 مقعدًا في مجلس النواب، ولها 6 حقائب وزارية و6 وكلاء وزارة وأكثر من 160 مديرًا عامًا ورؤساء مفتشي هيئات عامة، معظمهم وردت أسماؤهم ضمن قضايا فساد كشفت عنها هيئة النزاهة.
الكرة في ملعب الصدر ليتصدر الساحة، وما عليه سوى أن يعلن بأنه خرج للإصلاح لا شطرًا ولا بطرًا، وإنه عازف عن تبوء كتلته أي منصب حكومي شرط تنفيذ مطالب الشعب بشكل حقيقي لا ترقيعي، وعندها فقط سيحوز هذا الرجل على قلوب وإجماع الناس بطوائفهم وعروقهم، وإن كنت متيقنًا بأن استقالته ستدفع بحاشيته لتنقلب عليه، ولربما ستغتاله كما اغتيل غاندي على يد أنصاره بعد أن نادى بوجوب حفظ حقوق المسلمين.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست
علامات
مقتدى