في عام 827م، عبر القائد المسلم أبو عبد الله أسـد بن الفـرات، قاضي القيـروان وتلميـذ الإمام الكبيـر مالـك بن أنـس رحمه الله البحر من القيروان إلى صقلية فاتحًا، ومنذ اللحظة التي وطأت فيها قدماه البر الصقلي بدأت رحلة المسلمين في جنوب إيطاليا، ولم تمض من السنوات إلا قليل لتصبح صقلية الجسر الحضاري الثاني بعد الأندلس، والذي امتد من العالم الإسلامي وحضارته الزاهرة إلى أوروبا في عصورها المظلمة، وساهمت صقلية بشكل كبير على مدى قرنين في النهضة الأوروبية التي انطلقت بذورها من إيطاليا.
وبعد أن استتب الأمر للمسلمين في كل من صقلية وكالابريا، اتجهت حملات الفتوحات إلى الجنوب الإيطالي أملًا في الوصول إلى روما يومًا ما، وكانت إحدى هذه الحملات إلى “باري” يقول ابن الأثير: “وبالمغرب أرضٌ تُعْرَف بالأرض الكبيرة، بينها وبين بَرْقَة مَسيرة خمسة عشر يومًا، وبها مدينة على ساحل البحر تُدْعَى بارة”.
فتح “باري – بارة”
بعد فتح تارنتو عام 847 م، قاد الأمير “خلفون البربري” وهذا اسمه كما ذكره – البلاذري في كتابه فتوح البلدان إحدى التجمعات العربية والبربرية في مقاطعة (بوليا) واتجه ليحاصر مدينة (باري)، إلا أن فرص الهجوم ومحاولة الاستيلاء على المدينة المحصنة لم تفلح في بداية الأمر، ثم اشتدت وطأة الحصار فأخذت موارد المدينة المحاصرة في النفاذ، واشتدت وطأة الجوع والحرمان على الناس، وبطريق الصدفة يكتشف أحد جنود خلفون ثغرة في سور المدينة المحصن، فينزل بها مع مجموعة من جنوده ليباغتوا الجنود اللومبارديين، لتسفر المعارك عن تغلب خلفون وبث سيطرته على المدينة.
ويوقع بعد ذلك اتفاقية بينه وبين ممثلي الطائفة المسيحية يؤمن لهم فيها أنفسهم وأموالهم، وأن يحتفظوا بشرعيتهم وقضاتهم، وأن يتمتعوا أحرارًا بشعائرهم الدينية، وأن يؤدوا بكل حرية طقوسهم، وأن تبقى كنائسهم حرمًا مصونة. وسارع خلفون بعدها إلى تقوية أسطول المسلمين والمباشرة بفتح المدن والإمارات التي كانت بجوار مدينة باري.
ومع فتح باري استطاع المسلمون فرض سيطرتهم على الجنوب الإيطالي إلا من “نابولي”، التي هرعت إلى محالفة الفاتحين بعدما وجدت نفسها وحيدة أمام قوات المسلمين التي كانت قد سيطرت منذ عام على مدينة “أوستيا”، والتي تبعد قرابة 26 كيلومترًا عن روما، كانوا قد توغلوا حتى وصلوا إلى مركز مدينة روما ودخلوا كنيسة القديس بطرس وكنائس أخرى، إلا أنهم تراجعوا بعد أن أدركوا صعوبة دخول المدينة نتيجة تحصيناتها القوية وقد تحالف الأعداء فيما بينهم بوجه قوة الفتح الإسلامي الجديدة. في عام 848م، تحول الجنوب الإيطالي إلى مسرح لحروب آلية مستمرة ما بين الإمارات الإيطالية والمدن المستقلة من جانب، وبين طموحات المسلمين في فتح باقي المدن، وكان على “باري” أن تقوى فهي الخط الأول للمواجهة.
“الأمير خلفون البربري” فترة الحكم 847م – 852م
قام خلفون بعد الفتح بتوجيه رسائله لحكام المسلمين في جميع الأمصار ليزف لهم خبر الفتح فأرسل إلى صاحب مصر وإلى الخليفة في بغداد، ومنذ دخوله للمدينة اهتم بتوفير احتياجات أهل المدينة من المأكل والمشرب؛ فقام باستجلاب كثير من الغراس والمحاصيل كالقطن والأرز وقصب السكر والنخيل من صقلية، كما قام بتنظيم الري والصرف، واستجلاب الماء، ونشر النواعير المائية. حاول خلفون أن يصنع ربط بين العناصر الأربعة التي يتكون منها السكان، وهم العرب والبربر، والنصارى، واليهود، والتي كانت الإمارة تحرص منذ البداية على ضمان ولائهم، لم تلبث أن تحطمت، وخاصة بين العرب والبربر، فقتل الأمير خلفون في إحدى المكائد التي دُبرت له.
“مفرق بن سلام” فترة الحكم 853م – 856م
تولى حكم الإمارة، ولم يعرف أحد كيفية وصوله إلى قيادة الحكم، إلا أنه اشتهر بالتقوى، فبنى أول جامع كبير في وسط باري، والذي حول في نهاية الأمر إلى كنيسة – ثم الكاتدرائية الحالية للمدينة. ولم يلبث أن تولى الحكم حتى بدأت البلدان المجاورة في الإغارة عليه، ليقوم بعدها بحملة واسعة لتأديبهم فضم إلى إمارته كلًّا من “بنيفينتو” و”تليزي” وامارة (سبوليتو) و(ساليرنو)، وقد أتيحت له الفرصة في التوغل كيفما يشاء في إيطاليا وقد ثبت حكمه بعدد من الغزوات، والتقى عام 855م بالمقاتلين اللومبارديين والصقالبة فهزمهم شر هزيمة.
ووقعت أيدي جنوده على كثير من الغنائم كما أنه صالح في الوقت نفسه بعضًا من أمراء أعدائه على الجزية وأطلق أسرى المسلمين. كما أصبحت إمارة باري في عهده مأوى للعديد من المسلمين الذين تكاثر عددهم في المناطق الجنوبية الإيطالية وأصبحت باري مركزًا تجاريًّا ضخمًا على شواطئ البحر الإدرياتي.
لكن نار الفتنة اشتعلت من جديد وكأن “فتنة العصبية الجاهلية لا يعرفها سوى المسلمين”، فنسوا عدًوا يترقب بهم، وقد تولى إشعال هذه الفتنة مجموعة من العرب وجماعة من البربر، أدت في نهاية الأمر إلى قتل الأمير (مفرق) من قبل البربر ونصبوا محله (سودان الماوري).
الأمير “سودان الماوري”
فترة الحكم 857م – 871م
منذ اليوم الأول حاول أن يظهر عدالته بعدم التفريق بين العرب والبربر، فوزع المناصب الحساسة بالتساوي بين أطياف المجتمع، وعلى المستوى الخارجي شهد عهده أول هدنة عسكرية بينه وبين جيرانه من المسيحيين، فقام بخطوة إخلاء سبيل عدد من أسرى الحرب من إمارة “بنيفينتو” وعلى رأسهم أحد القادة الكبار، ثم بدأ بعد أن استتب له الأمر بالتفرغ لإمارة “نابولي”، والتي كانت قد نقضت العهد مع صقلية وأخواتها المسلمة من إمارات الجنوب الإيطالي فتوجه بجيش كبير من باري ليفتح “كابوا وكونزا ويبوريا” متوجهًا إلى مملكة نابولي، إلا أن انتشار مرض الكوليرا حال دون تواصل زحفه، وأثناء عودته إلى باري التحم بجيش من البندقية في معركة لم تشهد الأراضي الإيطالية مثلها منذ عصور. دارت رحاها بشدة، فتغلب “سودان” ورجاله في هذه المعركة التي أطلق الطليان عليها فيما بعد اسم (الشرسة).
وكان لهذه المعركة أسوأ وقع في العالم المسيحي؛ إذ اهتزت لها البلاد الرومية بأسرها، وكان (سودان) قد ابتدأ حكمه بحسن السيرة وعدالته، كان انتصار المسلمين له أثر بالغ حتى أن اسم “سودان الماوري” راح يتنقل عبر القرى والمدن فبدأ الرهبان في نسج قصص خيالية عن شره وفضائحه وحبه للقتل من أجل بث روح الكره والبغض له في قلوب العامة من الإيطاليين. وقد كتب الأمير سودان عام 861م رسالة إلى الخليفة المتوكل في بغداد يطلب فيها تعيينه واليًا على إمارة “باري”، إلا أن الرد جاء بأن المتوكل قتل وتولى بعده المستنصر، فاستغل الأمير “سودان” هذه الاضطرابات ليعلن نفسه “سلطان باري” لتصبح إمارة باري المركز الذي تتوجه منه الحملات لفتح العديد من المدن.
وفي عام 866م، قام الإمبراطور “لودفيك الثاني” بعقد تحالف بينه وبين أمير “بينيفينتو وسبوليتو ونابولي” ونصت قراراته بألا يركن أحدهم لجانب المسلمين ضد خصمه مرة أخرى. وفي العام نفسه قام الإمبراطور بشن حمله على قواعد المسلمين، ولكنه لم يستطع محاصرة “باري” لعدم امتلاكه أسطولًا بحريًّا قويًّا، فعاد من حيث أتى ولكنه لم ييأس فقام بالاستعانة بجماعات من المسلمين الصقالبة وصربيا والقسطنطينية، فحاصرت هذه القوات (إمارة باري) لمدة أربع سنوات.
كان على “سودان” أن يقاوم فلما اشتد الحصار طلب العون من صقلية، إلا أن الإمدادات لم تصل، فأيقن أنه لا بد أن يعتمد على نفسه في الدفاع عن مصير إمارته. وبعد معارك ضارية أبدى فيها المسلمون بسالة نادرة في الدفاع عن مدينتهم، حتى جاء يوم الثاني من شهر فبراير عام 871م نجحت قوات التحالف الكبير أن تقتحم أسوار “باري” بعد أن انتشرت المجامعة والأمراض ونقص العتاد.
فقام الإمبراطور لودفيك الثاني بقتل كل من في المدينة الذي كان قد أقسم على قتل كل مسلم فيها، ذبح الأسرى رجالًا ونساءً وأطفالًا، وتذكر بعض المصادر الإيطالية بأنه لم ينج من المسلمين حتى السلطان قتل في المعركة الطاحنة التي حولت المدينة إلى خراب كبير.
ومع سقوط “إمارة باري” العربية دُثرت المعالم الحضارية الإسلامية بحقد كبير، ولم يبق منها سوى آثار ضئيلة، إلا أن بعض الآثار عميقة وتشكل قوة وضاءة في حياة أهل مدينة باري التي تعتبر اليوم العاصمة الإقليمية لمقاطعة بوليا، وهذه القوة الوضاءة تشاهد في تكوينها العنصري والثقافي في تقاليدها ولغتها.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست