في عام 891 م نزل على شاطئ بروفانس – بجنوب فرنسا – عشرون بحارًا أندلسيًا كانت قد تحطمت سفينتهم بفعل عاصفة هوجاء لتُلقي بهم الريح على ذلك الشاطئ في خليج القديس تروبزر. تسللوا وهم لا يعرفون بأي أرض هم، صعدوا على تلة حصينة مغطاة بأشجار كثيفة وتحوي آثار حصن قديم يُسمى “فراكسينيتوم”. استقروا لبعض الوقت في ذلك الحصن الذي أسموه: “فرخشنيط” نسبة إلى نبات الدردار المنتشر بكثافة في تلك المنطقة، الشيء الذي جعل منها غابة حصينة.
وما إن استتب لهم الأمر وأعادوا بناء الحصن حتى قاموا بغارة على إحدى القرى المجاورة في محاولة لاستكشاف المكان وصالوا وجالوا في الأنحاء، وبعد أن درسوا المنطقة جيدًا أرسلوا أحدهم إلى “الأندلس” برسالة إلى الخليفة عبد الرحمن الناصر وعرضوا عليه الأمر وكيف وجدوا تلك الأرض وحال أهلها من اختلاف مع الأمراء والنبلاء المالكين لتلك القرى، فأوفد مع الرسول مائة من الرجال ليتحقق من الأخبار الواردة له من تلك الأراضي في بلاد بروفانس، ومن هنا بدأ مجد مدينة مسلمة أسسها المولودون الأندلسيون؛ مدينة حكمت جبال الألب وأجزاء من سويسرا. إنها إمارة “فرخشنيط”.
كانت تلك البداية لإحدى إمارات أوروبا المسلمة، إمارة خشاها الجميع وتوجست منها روما خيفة. لا يوجد في المراجع العربية الكثير عنها ولكن وجدت الكثير من الكتابات لرهبان تلك الأنحاء، كتابات ظلت محفوظة بأديرة نائية تقص علينا كيف كان “سارازين” وهو لفظ أطلق على العرب لكونهم غالبًا سمر الألوان. وقيل إنها محرفة عن “سرا كنو” التي هي المسلمون بلغة الروم، و قد ذكر ابن بطوطة في رحلته أن قيصر القسطنطينية سأل عنه: هل هو سراكنو؟ أي مسلم.
ويظهر جليًا في تلك الآثار والمخطوطات أن المسلمين لم يكن هدفهم سياسيًا أو امتدادًا جغرافيًا فقط، كانوا لصوصًا وقطاع طرق – هكذا تم وصفهم في المصادر الغربية – أما في المصادر العربية القليلة يذكر ويسجل ابن حوقل أن المنطقة كانت عامرة بمزارع المسلمين، الذين يرجع إليهم فضل العديد من الإبداعات في الزراعة والصيد في المنطقة. ويدل حطام السفن في المنطقة أن فرخشنيط ربما كانت مركزًا ذا شأن في التجارة مثلما كانت صاحبة الريادة في البحر بأسطولها القوي المدعوم من الأندلس.
“غارات جبال الألب”
يَذكر محرر يوميات دير «نوفاليز» الذي يقع على مقربة من بروفانس أن بدء الغارات للمسلمين على النواحي القريبة من مدينتهم كانت في عام 906م وقد ذكر أنه تم اجتياح القرى من جماعات المسلمين وإخضاع أهلها للإمارة وقد روى على حد وصفه “جرائم ترتعد لها الفرائص وفظاعات ارتكبها المسلمون”، وبعد أن تم إخضاع كل القرى والمدن بين نهري البو والرون، توجه المسلمون لبناء أبراج تقع على الطرقات الرئيسية والمرتفعات المحيطة بها تمكنهم من رؤية الطرق لمسافات بعيدة وتكون أبراج إشارة ومراسلة بالنيران في أوقات كثيرة وبذلك أصبح المسلمون يتحكمون في طرق التجارة والحج من وإلى روما عبر مداخل جبال الألب.
وتذكر بعض الوثائق أن المسلمين قاموا بقطع الطرق على بعض الحجاج وفرضوا عليهم رسومًا لعبور الطريق، وفي عام 921م لم يكن هناك سوى طريق واحد فقط لا يخضع للمسلمين وهو معبر سان برنار، ذلك الطريق الضيق بين الجبال الشاهقة، ومما يذكر أيضًا في السجلات طلب ملك إنجلترا والدنمارك المسمى “كنوت” من رودولف ملك “بروغند” أن يؤمن طريق سان برنار للحجاج الإنجليز مخافة من المسلمين المسيطرين على المنطقة. وقد كانت أوروبا وخاصة تلك المنطقة مجرد ممالك تتكون أحيانًا من مدينة واحدة فقط. فلم يكونوا على قلب رجل واحد بل يقومون بالإغارة والفتك ببعضهم البعض مما سهل للمسلمين أن ينزلوا للوادي الخصيب في سان برنار ويسيطرون عليه بسهولة ويقيمون عليه أبراجهم القوية التي كانت تحوي خزائن الأسلاب التي نقلت بعد ذلك إلى فرخشنيط، ومنها إلى ميناء بلنسية في الأندلس ثم أودعت في خزائن قرطبة.
مع مرور الوقت استطاع المسلمون بسط نفوذهم حتى بحيرة “جنيف” في سويسرا وأصبحت معابر وطرق جبال الألب الشرقية والغربية أراضيَ تابعة لإمارة فرخشنيط التي يهابها الجميع. وكالعادة بدأت الإشاعات تنتشر عن هؤلاء السارازين الذين يفتكون بالحجاج والقرى. ومع حلول عام 940م أصبحت سويسرا الألمانية والتي تقع بها مدينة “كور” والتي تحتفظ الآن بأغلب وثائق تلك الحقبة في كاتدرائيتها، أصبحت أراضيَ تابعة للمسلمين الذين أرعبوا أوروبا وصاروا مصدر تهديد رغم قلة أعدادهم. ومما هو ثابت ما فعله أمير سويسرا الألمانية “هرمان” بطلب تعويض من الإمبراطور المقدس “أوتو” عن الأضرار التي تسبب بها غزو “كويدلونبرغ”، أي أن المسلمين وصلوا إلى قلب أوروبا وساروا يعرفون دروب الجبال ومسالكها.
“أوروبا تحارب فرخشنيط”
بعد أن قويت شوكة المسلمين وأصبحوا مصدر تهديد لكل أوروبا كان على أحدهم أن يتصدى لهجمات تلك العصابات كما يصفونهم، فقام الكونت “هوجو” صاحب بروفانس بالتصدي لهم وطلب المدد من القسطنطينية، وبالفعل وصلته السفن ذات النيران الإغريقية والتي هجمت على ميناء “فرخشنيط” ودمرت أسطولها بينما قام هو بحصار المدينة وقامت معارك شرسة وكاد أن يظفر بتلك الحرب ويقضي على المسلمين، لكن جاءته الأخبار أن الكونت برنغار يسعى لدخول “لومبارديا” ويسلب الملك من تحت قدميه فعاد وترك الحصار وعاهد المسلمين الذين أصبحوا حلفاءه بعد تلك الواقعة. وكانت المعاهدة تنص على تأمين المسلمين لجبال الألب وإبقاء نفوذهم على ما كان لهم، على أن يصدوا أي هجوم محتمل عليه يأتي عبر الجبال.
وبذلك استطاع المسلمون أن يعيدوا تحصيناتهم مرة أخرى ويعالجوا ما كان في إمارتهم من ثغرات. وبقي الحال كما هو عليه لفترة كبيرة من الزمن، وكانت الطامة الكبرى للإمارة حين أغاروا على ركب رجل دين من أكبر رجال عصره، القديس مايولوس، وكان يقود قافلة كبيرة من الحجاج تعبر ممر سان برنار، فهاجمهم العرب وأخذوهم سبايا ونهبوا كل ممتلكاتهم. وتستفيض القصص في كرامات مايولوس، التي أهّلته ليرسـَّم قديسًا لاحقًا. ولم يطلقوا سراحهم حتى حصلوا على فدية كبيرة.
وكان لهذه الحادثة أثر كبير في نفوس الأوروبيين، ودفعت الملك وليام الأول حفيد هوجو من بروڤانس لحشد جيوش أوروبا والاتجاه لفرخشنيط. وتلاقى الجمعان في “معركة تورتور” والتي انهزم فيها جيش المسلمين واجتاحت القوات المدينة التي تحولت إلى ركام ولم يبق سوى آثار ضئيلة منها.
“فرخشنيط وما تبقى منها”
لم تحظ بأهمية كبرى في كتب التاريخ الإسلامي ولم يذكرها المؤرخون العرب بشكل مفصل بل تجاهلوها مع أنها تعتبر فتحًا إسلاميًا في بلاد الغال (فرنسا)؛ ربما لانشغالهم بتدوين الثورات في الأندلس منذ دخول المسلمين فيها حتى خروجهم منها، وانشغال الحكام بقمع الثورات المتتالية وكفاحهم للحفاظ على دولتهم، وربما اعتبروها حملة متواضعة مقارنة بحملات وفتوحات إسلامية أخرى. لكن أكثر من تحدث عنها وبشكل تفصيلي هو “liudprand” رجل دين من إيطاليا قام بتدوين هذه الحملة وقت حدوثها في القرن١٠، والتي اعتبرها بعض المؤرخين الأوروبيين غارة من غارات القراصنة.
“أسماء عربية”
تبقّى من إمارة فرخشنيط بعض أسماء المدن والطرقات من بازل السويسرية إلى شاطئ فرنسا الجنوبي فنجد:
“الماجل”: وهي مدينة صغيرة قرب سويسرا الإيطالية والكلمة تعني “ماء الجبل”، وقال ابن الأثير أن الماجل هو الماء الكثير المخزن بين الجبال.
“المشابل”: وهي قمم جبلية بجبال الألب وإما أن تكون جمع مشبل بمعنى اللبؤة أم الأشبال، أو المشابيل جمع مشبول وهو مكان تربية الأسود.
“وادي أنزه”: وكما ينطق بالألمانية Anzathale وهو وادي عنزة حيث كانت تسقي الماعز وترعى.
كما وجد بعض المصكوكات من النقود الفضية والتي تحوي كلمات عربية وبعض الأقمشة المطرزة بآيات من القرآن الكريم والتي تُحفظ بعناية في دير كور وخزائن دير سانت جيرمان. وكما هو الحال يحتفظ المنتصر بجزء من غنائمه كما يسُجل فظائع المهزوم وكيف كان السبيل للقضاء عليه. السؤال الذي يبقى حائرًا..
هل كانت فرخشنيط مجرد عصابات؟
أم إمارة إسلامية دان لها الجنوب الأوروبي صاغرًا منذ 881م حتى عام 974م؟
ومع قلة المصادر العربية ليس أمامنا سوى المصادر الغربية والتي تناولتها بين يديكم.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست