قطتي صغيرة *** اسمها نميرة!
تَظلُ تلك الكلماتُ “دقاتٍ” تُؤججُ استمطار الحنين إلى الماضي البريء.
تستطيعون الآن استدعاء تلك الزهور الفسفورية من فوق رفوف الذاكرة، وتستنشقون عبيرها المُستوطن في قبورِ الطمأنينةِ، وتنعجمون في ذكريات مورودة بعالم الرخاء الحياتي الجميل.
تستطيعون أن تُهاجروا كحبات الرذاذ المُتطاير خلف إطاراتِ الشاحنات المُسرعة على طريق مدينة الطفولة؛ للاستمتاع بقليلٍ من الدفء الوهمي الذي يتسرب إليكم والذي يُضفي في النفوس شيئًا من الارتياح والسكينة.
استرح واسترخ يا من تنتمي لجيل “القطة نميرة”، فيكفيك ما قد عاصرته من أحداث وكوارث، تتناثر منها أطنانٌ من الشفقة؛ كي تلتصق بمعطفك، مما قد تَمنهَج عليك من مُؤامراتٍ مخطوطة قد مارستها الأنظمة بحرفيةٍ بالغة.
ربما تعرض هذا الجيل لحصارٍ من ثالوث المؤامرات (المصائب)، التي تتابعت للفتك بالأدمغة، وتدمير البذرة المسؤولة عن ديناميكية التفكير، والعبث بأسس المنطق لإنجاب جيل مُتصحر من خضراوية الَتَثقُف ومُمَهَد لأن يكون مُستعمرة من التفاهة والسذاجة واللاوعي؛ ليضمن لأصحاب المصالح أن مُخَططاتِهم لن تتأثر بأجيال مُدركة ثائرة.
“اجتازت مصر فترة عصيبة في تاريخها الأخير من الِرشوة والفساد وعدم استقرار الحُكم”. “أنور السادات”، بيان ثورة يوليو.
تلك هي العبارات الافتتاحية، التي وجهتها قيادة الضباط الأحرار لعموم الشعب، فيما عُرِف بـ”بيان ثورة يوليو٥٢”، وأيضًا كانت العبارات التي استهل بها الجيش “حملة التزييف التاريخي الكبرى”.
كلنا يعلم أن السياسة هي “فن الممكن”، وأن التاريخ “يُسطره المُنتصر”، وربما يزيفه أيضًا، ويُكرس كل جهده لتشويه صورة من سبقوه، وهو بالفعل ما حدث على أرض الواقع.
فقد جاهد السادة الضُباط الأحرار على تصوير “العصر الملكي” بأنه قطعة من جهنم لما كان يحويه من خيانة وتآمر ضد مصلحة الوطن! وجاهدوا أيضًا في تصوير “عصر الثورة” بأنه يُمثل الطهارة والإخلاص والتفاني في حب الوطن.
لست بصدد الدفاع عن “الحقبة الملكية الفاروقية”، بقدر النُقمانية التي أمقُت بها القائمين على تزييف التاريخ وتشويه فترة تاريخية، ربما كانت تضُج منها الوطنية، أكثر من غيرها في التاريخ المصري المعاصر. وحتى تستطيع أن تستوطن المنطقة الصفرية من الأحداث؛ للفصل بين “عصر ما بعد ثورة يوليو، وعصر الحقبة الملكية”، وجب عليك أن تجيب على السؤال أدناه.
أين هي الرشوة والفساد – التي تحدث عنها بيان الثورة في يوليو٥٢ – من ربوع مصر الآن؟! وكيف تتصور المُنحنى البياني للرشوة والفساد على مدار أكثر من ستين عامًا؟!
عزيزي المُجيب.
أعرف أنك لست بحاجة للإجابة على هذا السؤال “الساذج”، فكل مواطن يعيش بين جدران هذا الوطن يعرف جيدًا الحيز الذي يتمركز فيه الفساد والرشوة.
لكن التعمق في تسلسل الأحداث منذ أن تم إذاعة البيان، وذكر الأسباب التي قامت لأجلها ثورة يوليو إلى تاريخنا المعاصر؛ يُثبت أن ثورة يوليو لم تكن المُستئصل الفعلي للفساد، إنما كانت الراعي الأول لتطبيبه وتعزيز مكانته، واستنساخ بويضات استبدادية أخرى أكثر سلبية منه، كالمحسوبية وفيتامين (واو) المعروف بالواسطة، وتأليه النظام العسكري، وتأميم الصحافة وتكميم الأفواه، وتكوين مراكز القوى، واستنصار القمع لوأد أصوات المعارضة، واستيراد التجربة السوفيتية في بلد لا يحتمل اقتصاديًا مغامرات صبيانية غوغائية. هكذا تم تزييف مجلدات التاريخ لصالح الأقوى. هكذا استطاعت الأقلية أن تسيطر على فكر الأغلبية.
“لم يحدث أبدًا في مجال الصراعات الإنسانية أن خضعت الأكثرية للأقلية”. (ونستون تشرشل).
تلك هي عبارة “تشرتشل” التي تعكس فخره بما قدمه للمملكة البريطانية، حينما استخدم القوات الخاصة (الكوماندوز) في ضرب بعض المناطق في أوروبا المحتلة؛ للرد على القصف الألماني الذي استهدف بعض المدن الصناعية والموانئ البريطانية الهامة. وحينما سجل تشرشل عباراته المُقتنصة من الواقع، كان يُرسخ موروثًا فلسفيًا يطابق عدة أزمنة. فالواقع “المصري السابق والمعاصر” هو أكبر إثبات لنجاح فلسفة تشرشل في ترجمة الواقع بحسب اعتقاده بأن الأكثرية تخضع للأقلية، تبعًا لمجموعة قوانين حياتية، تم سنها وتشريعها لتوجيه الشارع السياسي لما يرومه النظام الحاكم.
“الناس لا تستحقّ الكتابات الجيِّدة، طالما هم يستمتعون بالكتابات الرديئة”. “رالف إيمرسون”.
بل وأضيف على عبارة “إيمرسون” بأن الناس يستمتعون ويصدقون “الكتابات الرديئة والمزيفة”. فإن تلك الأجيال لم تكن فقط ضحية لإستراتيجيات تربوية ضحلة، ومناهج علمية محشوة بالتزييف فحسب، إنما كانوا فئران تجارب للمنظومة التعليمية بتعداد وزرائها.
ولم تتوقف حرب الإبادة الفكرية التي استهدفت هذا الجيل المطحون عند أبواب المدارس والجامعات فقط، بل امتدت شظاياها إلى جدران الحياة العامة، لنجد أنفسنا أمام أكبر عملية استقطاب ممنهج مارسها نظام ضد شعبه؛ ليزيل ثقافة المعارضة، ويُرسخ ثقافة بديلة مفادها (النظام ذو السلطة أحادية القطب) مستخدمًا أفواهًا آثمة، تعمل لصالح أجندات قمعية وتأليه أنظمة استعبادية، لاسيما في تطبيق السياسة الأمريكية لتصفية المعارضين السياسيين حيث ممارسة الإرهاب الثقافي ضد المثقفين، لنعيد الثقافة المكارثية بمفهوم أكثر شمولية.
“أنظر إلى العالم بأسره, الانجراف لعدة عقود ليس من أجل الفوضى بل لإعادة فرض العبودية”. (جيمس برونوهام).
حينما ظهرت المكارثية لأول مرة إبان الحرب العالمية الثانية، وفي أوج أوقات الحرب الباردة بين السوفييت والأمريكان، كانت توجه طعنات الترهيب الثقافي لتصفية الشيوعيين، مما أدى إلى اقتيادهم للمعتقلات؛ لتخلو الساحة أمام “عبيد القيصر” لبسط نفوذهم وفكرهم “العبودي” من أجل تسييد أسيادهم، ومع أن المكارثية قد تم طعنها بنهج “الذبح في الليلة الأخيرة”، عندما وجه “الكونجرس الأمريكي” تهمًا بالفساد (لجوزيف مكارثي)، أودت بمستقبله السياسي وبسجنه، إلا أن فكره المكارثي تسرب من تحت قبة مجلس الشيوخ الأمريكي؛ لينتشر انتشارًا ساحقًا في كل البلدان البيروقراطية، ويعمل جنود تلك الأنظمة على حماية مصالح أنظمتهم بتصفية المعارضة السياسية والترهيب الثقافي لحملة الفكر وأصحاب الرؤى السياسية.
ولعل القاص الأمريكي “راي برادبري” أراد أن يُسلط الضوء على أمثال هؤلاء الوصوليين من خلال روايته الشهيرة “فهرنهايت ٤٥١”.
أبدع “برادبري” في توجيه ضربة في مُنتصف الرأس لمن تبنوا السياسة المكارثية عن طريق روايته العالمية “فهرنهايت ٤٥١”، والتي اخترق بها آلة الزمن؛ ليضع نصب أعيننا قطعة كربونية مما نعيشه الآن من فساد الأنظمة السياسية، وتسخير المؤسسات الإعلامية، لتصبح متحدثًا رسميًا باسم النظام بدلًا من أن تكون أداة نقد لاذع تُقوم سلوك الحكومات والأنظمة، وتطرق إلى فكرة الإعدام الثقافي الذي تسعى إليه الأنظمة “الدواوينية” في تصفية كل المُثقفين عن طريق حرق المادة الخام المنوط بها تكوين قواعد ثقافية! لاسيما (حرق الكتب عند درجة حرارة ٤٥١ فهرنهايت)، وهو ما لا نستبعده فعليًا عن أنظمتنا الحالية.
“يا عزيزي بروتس، الذنب ليس ذنب حظنا، لكن الذنب الحقيقي هو ذنبنا و/ أو إثمنا”.
كانت تلك هي العبارة التي قالها القائد الروماني “كاسيوس” لصديقه “بروتس” قُبيل اغتيال القيصر الروماني (جوليوس سيزار).
فلا أحد كان يتخيل أن يتم وأد الثورة الشعبية بواسطة مجموعة من المنافقين المكارثيين، الذين تفننوا في اقتسام الشارع السياسي المصري، وإحداث حالة من التوهان “لجيل القطة نميرة”. والذنب الحقيقي هو ذنب الشباب الثائر الذي ارتضى بوجود دور لأمثال هؤلاء الوصوليين داخل الصندوق السياسي.
ولنا في بعض النماذج الإعلامية مثال للذين انبطحوا على بطونهم؛ لتأييد الحراك السياسي الشعبي، إثر أفول النجم “اللامباركي” وسقوط نظامه.
فقد حاولت هذه النماذج الإعلامية المنافقة الالتفاف حول ثورة يناير المجيدة، والانضمام لصفوفها، وعندما تم الاصطفاف العكسي لتنظيم إشعارات الثورة المضادة، كانت نفس هذه النماذج الإعلامية أول من انبلج في صفوف “الردة الثورية” للانتقام من الثورة الينايرية ورموزها.
وتعتبر هذه النماذج بمثابة الذراع الأيمن الذي شل حركة هذا الجيل البائس، بالتكاتف المتواري مع الذراع الأيسر – الفكر الإسلامي المُتشدد والميليشيات المسلحة – الذي أكمل من ناحيته “مسلسل التطويق وتضيق الخناق”.
وقد تمثل الذراع الأيسر في الفكر المُتطرف الذي يستظل برايات الدين؛ ليفعل ما يحلو له من جرائم إنسانية وأخلاقية مستندًا إلى مفاهيم مغلوطة في تفسيره لمعانٍ مُقدسة من القرآن الكريم والسنة النبوية، وإجماع الفقهاء.
ولا يقل هذا الإرهاب جسارة عما سبقه، مع فارق وجود عنصر الدم كإثبات حي على الجرائم المُرتكبة، فالأنظمة القمعية تعتمد على تدمير الخلايا الدماغية. والفكر المتطرف يعتمد على ترهيب الآمنين بالسيف والمقصلة والحرق. وكلاهما يتعاونان على الفتك بالبشرية.
“إن القيادة السوفيتية تبعث بأحر التهاني إلى ألمانيا؛ وذلك لنجاحها في حملاتها. إن الدبابات الألمانية التي غزت شمال فرنسا كانت معبأة بالبنزين السوفياتي، وإن القاذفات الألمانية التي سحقت روتردام كانت مليئة بيروكسلين سوفياتي، إن الرصاص الذي قتل الجنود البريطانيين، كان بارودًا سوفياتيًا”.
ثمة تهنئة “أليمة” ألقاها “فياتشيسلاف مولوتوف” رئيس الوزراء السوفيتي ليلوم الألمان على نصرهم في فرنسا، ريثما كان الاتحاد السوفيتي مقيدًا باتفاقية عدم الاعتداء بينه وبين الألمان. ظل الاتحاد السوفيتي يحتفظ بنصيبه في احترام المعاهدة إلى أن وطئت أقدام الألمان عقر دارهم. هكذا يعيد التاريخ نفسه، حالما تقود تلك المليشيات العسكرية حربًا “بربرية” ضد الإنسانية، بدعم لوجيستي غير مباشر من الزعماء العرب المكبلين بتصفية كوارثهم الداخلية، وإخماد صوت المعارضة لحماية عروشهم المستبدة، وهذا فقط ما يتفننون في صنعه. لكنهم عاجزون بالتأكيد عن التوحد وصد العدوان الطائش وحماية ذويهم من النحر والحرق والتعذيب.
“عندما أقوم ببناء فريق، فإنني أبحث دائما عن أناس يحبون الفوز، وإذا لم أعثر على أي منهم، فإنني أبحث عن أناس يكرهون الهزيمة”. (روس بروت).
ويعتبر مشروع الخلافة الإسلامية والمتمثل في”الدولة الإسلامية في العراق والشام” المعروفة إعلاميًا (بداعش) مثالاً حيًا على التعصب الدموي الذي لا يرتكز على مواد شرعية؛ تبرهن صفة أفعالهم الوحشية.
فهم في الغالب قوم يريدون التلبيس على الناس باستغفالهم وتضليلهم بعبارات الجهاد والاستشهاد؛ ليظن النزق والغر بهم ما ليس حقًا من دين وورع. وتعتبر تلك المفاهيم الدينية هي المدخل الرئيسي، الذي يستخدمه القائم بمقام تنفيذ هذا الفكر الديني المتطرف لاستمالة واستقطاب عناصره، ليقع المستقطب تحت تأثير مخدر (الفوز بالآخرة والاستمتاع بالحياة الدنيا في كنف خلافة إسلامية راشدة)، ليصبح خانعًا لإرادة الأمير (أو/ و) الخليفة في شتى أمور الحياة. فكيف لا يخنع ويطيع، بعدما شعر بأهمتيه الحياتية والدور الهام الذي يلعبه في دولة الخلافة! بعكس ما عاشه تحت ظلال الأنظمة الشمولية البيروقراطية القمعية من أحاسيس بالتهميش والفشل واللانفعية.
يمتلك أصحاب تلك المرجعيات الدينية المتشددة – داعش – فكرًا صلبًا مُتعصبًا لأيديولوجية لا تقبل النقاش، تتسم بالجمود والتعسف للآراء المأخوذة من زوايا ضيقة لتفسير السنة النبوية المباركة. وتعتبر تلك البراثن الفكرية نواة حقيقية لتطلعات استبدادية، يظنها بعض التابعين والموالين – أعضاء التنظيم والمستقطبين – أنها المعصومية واللادحضية وتعتبر هذه الحالة اللاشكية التي تتملك من جمهور المؤيدين في قطعية صحة تفسيراتهم “لب الكارثة”، التي تُنذر بدمار دموي في طريقه لامتلاك العالم.
إن تلك الثقافة الدُغماتية التي تدعم سياسة “المعتقد الفكري الأوحد”، لا تقل خطورة عن الثقافة المكارثية التي سبق وقد أشرنا اليها. فكلاهما قد شكل حالة البؤس التي أصابت “القطة نميرة”.
“إن أكبر الأخطاء هو الاستسلام للرضا”. (نيكوس كازانتزاكس).
إن نهج الحكومات العربية الذي يتسطر في عنوان “أنا راض بما أنا عليه مادام الأذى لم يصلني”، سوف يؤدي إلى هلاك الأمة العربية أجمع، وكذا استسلام الشباب العربي لرؤى حكامهم المُهلهلة، سوف يلقي بهم إلى الهاوية. فلا تستبعد أبدًا أن تقرأ عنوانًا خبريًا ينتشر في الصحف العربية في الفترات المُقبلة على النحوالتالي: “داعش تقوم بإعدام رجل، لضبطه في خلوة غير شرعية مع (قطة)”. أو تقرأ أيضًا لافتة معلقة في مدخل أحد المطاعم أو الفنادق – حيطة من الانفجارات التي تعودناها – (سامحني سوف تموت منفجرًا). وهذا كل ما يستطيع تقديمه جيل “القطة نميرة”، السخرية من الواقع الأليم أو الموت كمدًا بمعتقلات الأنظمة المكارثية أو الوقوع تحت نيران القصف الداعشي.
والآن ألم يأنِ للقطة نميرة أن تكبر؟!
ضع إجابتك كما يحلو لك.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست