غالبًا ما كان أبي يوصيني بأن أبتعد عن السياسة وعن «الدولة» بمفهومها الشعبي، ويردد على مسامعي وعاطفته تدفعه دفعًا، يا بني الدولة صعبة المراس لا تلعب معها، ولا تقترب منها فتأخذك أخذ عزيز مقتدر، ومما يؤكد عليه مرارًا ولا يفتأ يذكرني به الخير الذي أنا فيه وعليه، وبنبرة مغلفة بالخوف من المستقبل يذكرني بالوظيفة التي أشغلها والبيت الذي أسكنه والأمن الذي أعيش وأتنعم فيه، فأجيبه يا أبتي ما المانع أن أطلب الأفضل، وأتوق لرؤية بلدي ينافس البلدان الكبرى ويتصدر المحافل الدولية، ما المانع أن يكون مستقبلي ومستقبل أبنائي من بعد مستقبلًا مشرقًا تتشوق له النفوس وتطيب له الخواطر، فيرتجف من ردي غضبًا ألا ترى أن حالنا هذا أحسن من حال جيراننا، ألا ترى أن حالنا أفضل من إخواننا، فـأطأطئ رأسي وأرد، نعم حالنا أحسن من حالهم لأننا تركناهم يتخبطون وحدهم كل ذلك لأن همنا كان الأكل والشرب والسكن، نعم نحن أفضل منهم حالًا لأنهم ليسوا إخواننا ولسنا جيرانهم لأننا نعيش عيش الدواب نأكل ونشرب وفقط ولأن إيماننا بأمة واحدة لم ينضج بعد رغم تعاقب السنين وتتالي الاحتياجات لتعجيل ربط أواصرها وتوضيح معالمها وتكاتف شعوبها واتفاق حكامها ووقوفهم عند تطلعات وطموحات شعوبهم لكن هيهات هيهات. حكامنا همهم الوحيد الحفاظ على كراسيهم وبيع أماني وأحلام شعوبهم بأثمان بخسة وفي أسواق النخاسة بعيدًا عن كل ما من شأنه احترام الشعوب، والأسوأ تعاملهم بطريقة مستبدة ظالمة منتهكة للحقوق والحريات غير حافظة لكرامة الإنسان، أما هم فعلموا أن رأس كل شيء هو الحرية فبها يبدع الإنسان ويتألق، وبها تفتح الآفاق والفرص دون تمييز بلون أو عرق أو جاه، بها تستطيع اختيار من يحكم، وإن قصر تعزل، من ذلك ساء حالهم وتبدلت بلدانهم لأنهم اكتشفوا أنها ممتلكات خاصة في هيئة أوطان بحرس، حرس لا يريدون لها أن تتقدم، ولا يرضون للإنسان فيها أن يكون إنسانًا، يسكت أبي قليلًا ثم يرد الواقع الذي نعيش فيه نعرفه ويعرفنا، لكن المستقبل لا نعرفه، لا نعرف من سيأتي ويحكمنا أهو أحسن من مَن حكم، أهو أخف وطأة سيدنا، ثم هل سينقلنا إلى مستقبل أفضل أم سيأخذنا إلى ما هو أسوأ، أظن يا بني أن المستقبل الذي تحلم به لا وجود له في أرضنا وبين ناسنا، المستقبل الذي تبحث عنه لا وجود له في واقعنا، انتظر الآخرة علنا ندخل الجنة فننعم فيها بما نحلم، ودع الحكام يحكموا دون ضجيج أو صخب.

بعد كل الذي سبق قمت من نومي على وقع صخب شديد الخطب ظننت من شدته أن التغيير قد اقترب، لأكتشف أنه صوت رودينا الصغيرة التي أحب، فقلت في نفسي إن المستقبل الذي كنت أتمناه لها قد تكشَّف لي في المنام وهي أولى علامات التغيير الذي أرْتَقِب.

أبي لم يكن يعبر عن نفسه فقط من خلال وصاياه، إنما كان يعبر عن جيل بأكمله تربى على الخوف من التغيير أو حتى من التعبير، جيل تمكنت دعاية الحكام وحواشيهم من تخديره وتنويمه مع مرور السنوات، فأصبح يقرن التغيير بالفوضى وعدم الاستقرار والإرهاب والدماء، وانطلت عليه مكائد الأنظمة الشمولية التي تلصق بكل معارض لها أصنافًا من التهم بدءًا من العبث السياسي وانتهاءً بالعمالة للخارج (الأيادي الخارجية)، معطيًا صكًّا على بياض لحكام مستبدين حكموا شعوبهم بخطاب شعبوي لا يسمن ولا يخرج من تخلف.

أخيرًا ما دار بيني وبين أبي وصف لحالتين؛ حالة الخوف من التغيير الذي أبقى أمتنا في ذيل الأمم والغريب أن هذا الواقع ممزوج بالشعور بالعظمة، وحالة الأمل المرتسم في قلب كل شاب من شبابنا، أمل لتغيير واقع أرغمنا على العيش فيه دون أن يكون لنا الحق في تغييره أو حتى الدعوة إلى إصلاحه، هاتان الحالتان تستوجبان من أصحاب الثانية (الشباب) النضال في مسارين أساسيين؛ مسار مع الحالة الأولى لتوعيتها وتحسيسها بخطورة الأوضاع التي نعيشها وأن رأس كل أمر هو اختيار منظومة حكم ديمقراطية مبنية على كفالة الحرية، ثم عليها النضال في مسارها الثاني مع الحكام من أجل دفعهم لإجراء إصلاحات حقيقية تنقلنا نحو مستقبل مشرق تشرك الجميع في عملية البناء دون تمييز أو تقزيم أو إقصاء.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

علامات

الخوف
عرض التعليقات
تحميل المزيد