لقد كتبت المقدمة لهذه الفكرة في المقال السابق تحت عنوان: «لإنقاذ الإنسانية.. «فرمتوا» العالم!»، والمنشور في هذا الموقع بتاريخ 9 ديسمبر (كانون الأول) 2018. واليوم أقدم الجزء الأول وهو جزء من بضعة أجزاء ستُنشر متتالية. ولفهم المقصود من هذه الفكرة أتمنى قراءة المقال السابق الممهد لها. وسأبدأ بإيضاح المحاولات الفاشلة لإصلاح العالم وطمأنة الإنسانية على مصيرها منذ الألفية الثانية قبل الميلاد أي منذ حوالي أربعة آلاف عام وإلى يومنا هذا. وقد يستغرق هذا الإيضاح مقالين متتالين وهذا أولهما، ثم أبدأ بتقديم فكرتي المتواضعة لإصلاح النظام العالمي من أجل عالم يسوده السلام والمحبة عن طريق إزالة ومحو مسببات التوتر والحروب والفقر، وترسيخ سبل الطمأنينة والسلام، والعدل والمساواة.
وكل ما يرد في هذه «الفكرة» في كل أجزائها قابل للنقاش.
الجزء الأول
محاولات الإصلاح السابقة (أ)
1. الأديان
لم تفلح كل الأديان في بسط الطمأنينة والثقة بين الناس، ولم يستطع أي منها التغلب على الأديان المنافسة بالحجة والبرهان واستمالة معتنقيها بغرض توحيد الرؤى، برغم الجهود الهائلة التي بذلت في سبيل تلك النتيجة. فلم يعتنق اليهودية إلا اليهود، ولم يعتنق المسيحية إلا ذرية المسيحيين، وهذا ينطبق تمامًا على الإسلام، مع بعض الاستثناءات الكبيرة ولكنها لم تكن مؤثرة بفاعلية في التوازن الديني البشري في العالم. أما الأديان «الأرضية»، إن جاز التعبير، كالبوذية والهندوسية والسيخية وغيرها لم تكن أصلًا أديانًا دعوية، بل هي في الحقيقة أفكار فلسفية قام بها بشر بنية إرشاد الناس إلى الطرق السليمة للعيش بسلام. وعلى العكس من المرجو منها، سببت الأديان «السماوية» النزاعات المدمرة بين البشر. فأتباع كل دين أرادوا أن يثبتوا أنهم هم ظل الله في الأرض، وأنهم هم وحدهم على الحق دون دليل ظاهر على أدلة الأديان الأخرى، مما سبب تلك الصراعات المدمرة للمجتمعات الإنسانية لقرون عديدة. ولا زالت الأديان أساسًا للتوتر والحروب الظاهرة والخفية حتى بين جماعات تنتمي للدين الواحد. وقد لا أبالغ إذا ما قلت إنه من المستحيل أن يتفق الناس على أيٍ من الأديان «السماوية» الحالية، أو على مذهب معين ضمن الدين الواحد! لذلك كان لا بد من البحث عن حل بشري، وهذا ما حصل فعلًا من بعض الحضارات «الحديثة العهد»، إن صح التعبير، وأفكار وطروحات العديد من الفلاسفة والمصلحين والمفكرين لحل الأزمة الإنسانية والتي سأشرح بعضها باختصار، ولن أتحدث عن حضارات موغلة في القدم كالسومرية والبابلية والفرعونية فهي الأخرى لم تتمكن من توحيد الناس على فكرة واحدة للنهوض بالإنسانية!
2. الحضارة الإغريقية
لم تكن الحضارة الإغريقية مثالية لتوفير أسباب الكرامة والحرية الحقيقية للتقدم والتطور، بالرغم من نشأة المدن وتحسن الاقتصاد بنمو التجارة وتأسيس المدن، ومن ثم نشوء نوع من الديموقراطية. إلا أننا رأينا إعدام أحد أهم الفلاسفة الإغريق وهو العبقري سقراط لانتقاده النظام الديني السياسي القائم. ولم يكن النظام السياسي والاجتماعي القائم آنذاك ملبيًا لرغبات الشعب في العيش بحرية وكرامة. وهذا ما دعا الفيلسوف وتلميذ سقراط النجيب أفلاطون (427 ق.م.-347 ق.م.)، إلى اقتراح نظام سياسي شبه شيوعي في كتابه (الجمهورية) أو ما نسميه (جمهورية أفلاطون). قسّم أفلاطون الشعب في «الجمهورية) إلى طبقتين: الحكام والمحكومين. فالحكام يحكمون بعد تدريبهم إلى سن الخامسة والثلاثين عاماً من العمر، ثم يطلقون في المجتمع إلى سن الخمسين عاما ليتعلموا الحياة، وبعدها يتولون مقاليد السلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية، ويمنع الحكام من امتلاك العقارات والأراضي، كما تكون النساء والأطفال مشاعًا، كي لا تكون هناك أية فوارق تؤدي إلى النزاع والفتنة في الطبقة الحاكمة. أما المحكومون فهم طبقة العمال والفلاحين وبقية الصنّاع، ولا يجب أن يتدخلوا في عمل السلطة على الاطلاق فكل يقوم بعمله ليسود العدل كما هي نية أفلاطون. إلا أن أحدًا لم يجرؤ أن يضع فكرة أفلاطون على سكة التطبيق، ربما لمثاليتها! وتوالت بعدها أفكار الفلاسفة والسياسيين وعلماء الاجتماع في تحليل وتفسير العالم ومشكلة الانسان في هذا الكوكب كل حسب رؤيته، دون العمل على تغيير هذا العالم حسب أفكارهم حتى جاء كارل ماركس وسنرى ما فعل لاحقًا.
3. الحضارة الرومانية
ثم جاءت الحضارة الرومانية التي كانت تجسيدًا حقيقيًّا للإمبراطورية الاستعمارية القوية، التي كانت تمتهن الحروب واستعباد البشر، إلى أن بلغ الظلم مداه في روما باحتلال الدول الأخرى لتوسعة النفوذ ونهب ثروات الشعوب المستعمرة لمضاعفة ثروات طبقة الأثرياء، وليس لخير الرومان، فلم يستفيد الفلاحون وبقية الفقراء من نهب أباطرة الروم للبلاد الأخرى، وعليه لم يعودوا يكترثون بالحرب خارج حدودهم. مما دفع القيادة الرومانية إلى استئجار المرتزقة، وبناء الحاميات لهم في البلاد الأخرى ليقاتلوا من أجل الإمبراطورية المستعمرة مقابل حصولهم على الجنسية الرومانية. أي أن الفساد وانعدام الأخلاق والظلم وعدم مراعاة رغبة الشعب في الاستقرار والحرية من أهم عوامل انهيار الإمبراطورية الرومانية، بالرغم من كل ما قيل من أسباب سهّلت الانهيار. إذن لم تكن إمبراطورية الرومان لتهتم بمشاكل الإنسانية وحلها لتستقطب الناس إلى صفها وتوحد البشرية، بل كانت من الأنانية بحيث لم تكن إلا دولة طغيان واستعمار!
4. النهضة والتنوير في أوروبا
وفي العصور اللاحقة، وبعد حركة النهضة في أوروبا Renaissance والتي امتدت بين القرنين الرابع عشر والسابع عشر، أي تقريبًا بين عامي 1300-1600، والتي اعتُبرت الجسر الرابط بين العصور الوسطى والتاريخ الحديث. تلك الحركة التي كانت ثورة ثقافية وعلمية وسياسية وعقلية أثرت على العالم أجمع، ونتج عنها فيما بعد عصر التنوير Age of Enlightenment والذي سمي أيضًا بعصر العقل Reason، الذي ابتدأ مع نشر فرانسيس بيكون كتابه الشهير Novum Organum عام 1620، كما توسموا خيرًا بأهم نتائجه وهي المذهب السياسي-الاقتصادي المسمى الليبرالية Liberalism والتي تهدف إلى تعزيز الحرية الشخصية والاقتصادية، كما تدعم الحقوق المدنية والديموقراطية والعلمانية والمساواة بين الجنسين. وتكفل الليبرالية حرية التعبير والدين والحرية الاقتصادية. وبالرغم من الإرث الثقافي والسياسي والتنظيمي للحياة السياسية الذي تركه عمالقة التنوير والليبرالية، من أمثال الفيلسوفين الإنجليزيين توماس هوبز Thomas Hobbes (1588-1679) وجون لوك John Locke (1632-1704)، والفرنسي جان جاك روسو Rousseau (1712-1788) مؤلف كتاب العقد الاجتماعي عام 1779 والذي ساهم بشكل فعال في الثورة الفرنسية، والفرنسي الآخر فولتير Voltaire (1694-1778) ، ومونتسكيو Montesquieu (1689-1755) الذي فصل السلطات الثلاث. ولكن وبالرغم من كل ما تقدم فإن الحياة السياسية ما زالت تعاني من المشاكل الجمة والتزوير والظلم وعدم المساواة، وازدياد الجرائم والتفاوت الطبقي والاقتصادي الرهيب! أي أن الفكر التنويري والليبرالي الديموقراطي لم يستطع حل المشاكل الحياتية والسياسية للناس برغم كل الإمكانات المتوافرة. ذلك أن نخبة السلطة والمال استأثرت بكل شيء ليس في الداخل فقط، بل تخطت الحدود لنهب خيرات الشعوب الأخرى واستعمارها عسكريًّا ونشر الفوضى والحروب الأهلية بلا وازع من أخلاق. إضافة إلى الفشل في الداخل حيث معدلات الفقر والبطالة والجريمة في ازدياد!
5. بعض المبادرات الفلسفية
ومن مخرجات عصر التنوير، حاول الفيلسوف الألماني المثالي إيمانويل كانت Kant ضبط الأخلاق التي يبدو أنها كانت في حالٍ سيئة وأنها من الطرق المؤثرة للحفاظ على نبض الحياة، فقد اقترح قانونه الأخلاقي (الأمر القطعي) أو (المبدأ النوعي) Categorical Imperative، والذي يقضي بأن تكون الأخلاق مبدأً علميًا أو عقليًّا متجردًا من أي منفعة، أي عمل لا علاقة له بالظروف المحيطة به، ومن دوافع ونتائج مهما كانت، بل قيمة كونية بذاته وقانونًا طبيعيًّا. أي أن الانسان لا يكذب ليس خوفًا من الله، أو من الشرطة، أو من السمعة السيئة، بل لا يكذب لأن عدم الكذب يجب أن يكون قانونًا علميًّا طبيعيًّا يجب أن يتبعه الجميع! وشدّد كانت على أن الانسان يجب أن يكون غاية وليس وسيلة! ولكننا لم نر أو نسمع عن تطبيق هذا القانون الأخلاقي العلمي أبدًا بالرغم من «منطقيته»! فربما استحالة تطبيقه لم تجعل متنفذًا شريفًا يفكر فيه. فأي حجة أخلاقية تمنع جائعًا من السرقة؟!
أما فلاسفة العبث absurdity فقد خيّروا الناس بين الانتحار suicide والقفزة الإيمانية a leap of faith أو القبول acceptance بالمتاح للتخلص من عبثية الحياة، كما فكر بذلك أحد أهم العبثيين والوجوديين: الفرنسي ألبير كامو، إلا أنه لم يستطيع تبرير الانتحار ولم يوافق عليه، ربما خوفًا من النقد الذي كان سيثيره فيما لو برره، ولم يكن متحمسًا لفكرة القفزة الإيمانية حيث إنه كان ملحداً كمعظم الوجوديين والعبثيين، ولكنه كان مرتاحًا لفكرة القبول acceptance التي عليها معظم الناس اليوم، والتي كانت أيضًا إحدى أفكار الفيلسوف الدانماركي سورين كييركغارد Soren Kierkegaard والذي حبّذ أيضًا فكرة القفزة الإيمانية بالرغم من كونه وجوديًا، بل يعتبره البعض رائد الوجودية في العصر الحديث. ولا ننسى الفيلسوف الفرنسي الوجودي جان بول سارتر الذي انتشرت أفكاره الوجودية في النصف الثاني من القرن العشرين. سارتر أعطى للإنسان كامل الحرية في اختيار طريق حياته اجتماعيًا وأخلاقيًا، مهملًا بذلك كل التقاليد الاجتماعية وداعيًا إلى تجاوز القيود الدينية والأخلاقية! استهوت الوجودية قطاعًا لا بأس به من الناس وخاصة الشباب، ولكن هذا الفكر لم يلبث أن انتهى مع موت أصحابه. لم تستطع أي من هذه الخيارات الثقافية والفكرية بأن تجذب الناس لتبنيها والعمل على تحقيقها. لذلك لم تندرج أساسًا لحل مشكلة الانسان في تحقيق العدل والمساواة والقضاء على الاستبداد والفقر والجريمة.
يتبع الجزء الثاني
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست
علامات
أفكار