في حديث قصير بيني وبين إحدى أساتذتي في الجامعة التي ما زالت في ريعان شبابها ولا تكبرني كثيرًا، كنت أخبرها أنني مهتمة بالكتابة والتدوين فاظهرت إعجابها بالطلاب الذين يملكون موهبة على العموم وطلبت مني أن أرسل لها بعضًا من مقالاتي. ثم سألتني «بأي لغة تكتبين؟» فأخبرتها أن معظم كتاباتي بالعربية الفُصحى وهنا ظهر على وجهها الامتعاض وقلة الحيلة وكأنها تخبرني انها ستواجة صعوبة ما في فهم تلك المقالات المكتوبة بلغة عجيبة غير مفهومة، اللغة العربية! حاولت أن اُبسط لها الأمر بعض الشيء وأطمئنها أنني أكتب بلغة بسيطة لا تعقيد فيها وأن أسلوب كتاباتي بالطبع لم يصل بعد إلى المصطلحات المستخدمة في قصائد عنترة بن شداد أو شعراء الجاهلية على العموم. لكنني حين تركتها، تساءلت: «لِمَ احاول تبسيط ما هو طبيعي ولا تعقيد فيه؟».
الحقيقة أنني كثيرًا ما صرت ألحظ الجهل باللغة العربية في محيط جيلي وبالطبع في الأجيال الأصغر. فصار من المُضحك – بالنسبة إليهم – والعادي جدًا أن يُعبر أحدهم عن جهله بكتابة كلمات باللغة العربية الفصحى أو أن تسألك إحداهن وهي في سن العشرينيات، ما إذا كانت كلمة «لكن» تحمل ألفًا في المنتصف أم لا. صار من الطبيعي جدًا والمعقول أن يخجل الشباب من مراسلة بعضهم البعض باللغة العربية وكأن هذا يعد دليلًا على تخلفهم وجهلهم. وأصبحت الحوارات الكلامية بين الأصدقاء تدور بالإنجليزية بينما هم على أرض مصرية والتي تعد حتى الآن حسب معلوماتي الضئيلة دولة عربية ولغتها «العربية». صار من الغريب أن تجد أحدهم يستمع إلى أغانٍ عربية فهي أصبحت دون المستوى فقط لكونها عربية! وبلا شك ستجد أطفالًا في محيط عائلتك لم يتجاوزوا سن السابعة بعد، يصعب عليهم عد الأرقام باللغة العربية أو حتى التعرف على أشكالها. ومن ورائهم أم وأب يتفاخرون بالأموال الباهظة التي يدفعونها في سبيل تعليم أولادهم الجُهلاء بأصولهم العربية.
إنه لمن المُحزن أن يصل هذا الجهل باللغة ومفرداتها وكتابتها إلى هذا الحد المُخزي الذي يجعلنا نلقى شبابًا بل وأساتذة جامعة يلقون صعوبة في فهم اللغة العربية أو التعبير بها. وفي الحقيقة أنني لم أستوعب حتى الآن ما الُمخجل في استخدام لغة ما دونًا عن غيرها؟ ما المُخجل في الحديث باللغة العربية والكتابة بها في وسط محيط مصري عربي أصيل؟ لم أستوعب مُطلقًا المبرر وراء حديث أم مع أولادها بالإنجليزية طوال الوقت إلى الحد الذي يجعلهم يتعجبون لسماع كلمات عربية. لم أستوعب حتى الآن عدم شعور هؤلاء بوجود أي مشكلة واعتقادهم المؤسف أن جهلهم بلغتهم الأساسية أمرًا مُضحكًا ودليلًا على مدى ثقافتهم الواسعة. والنتيجة الحتمية هي ضياع هويتنا رويدًا رويدًا إلى أن نصير يومًا ما عدمًا ومسخًا مُشوهًا غير معروف الملامح. فما الذي تتوقعونه من شعوب باتت تتفاخر بجهلها وبنفورها من أبسط عناصر هويتها كاللغة؟ ما الذي تتوقعونه من شعوب تجد صعوبة بالغة في قراءة كتاب باللغة العربية وأطفال لا يعلمون من تلك اللغة إلا أقل القليل؟ فما الجدوى التي يُمكن أن تخرج من شعوب تستهزئ بمن لا يجيدون النطق بالإنجليزية ولا يجدون أدنى مشكلة في الجهل باللغة العربية؟ هل هذه شعوب قادرة حتى على قراءة الكتب المقدسة كالقرآن والإنجيل المكتوبة بالعربية؟
أظن أن معايير هذا المجتمع باتت مضطربة إلى حد مؤسف وتزداد اضطرابًا من جيل إلى آخر، فلا داعيَ للاندهاش إذا ما وجدنا بعد سنواتٍ عديدة أجيالًا لا تعرف الحروف الأبجدية العربية من الأساس. ولا داعي للتعجب من أحوال المجتمعات العربية التي تصير من سيء إلى أسوأ كل يوم. فإنه من الصعب أن نُحتَرَم من قِبل شعوب تعتز بهويتها بينما نحن نود دفن هويتنا في قبور عميقة لكي لا ترى شمسًا أبدًا. إننا نركض تجاه الهاوية المحتومة بلا حساب أو تدبير، ننظر إلى أمر هويتنا بسذاجة وبساطة مبالغ فيهما إلى أن صرنا لا نستطيع وضع تعريف للهوية المصرية من الأساس. صرنا حتى نجد صعوبة في التفريق بين كلمتي «الهاوية» و«الهوية» في العبارات السابقة، والتسليم بالاعتقاد أن هذا خطأ لغوي من الكاتب.
دائمًا ما كان يختتم الشاعر الراحل صلاح جاهين قصائده بكلمة «وعجبي»، لكنني أظنه كان سيستبدلها بـ «وأسفي» لو كان قد عايش ما نحن عليه الآن.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست