لم يكن تعبير «القضية الفلسطينية» مريحًا بالنسبة له، كان يسميها «قضية العرب الفلسطينية». صدر أول كتاب له قبل النكبة بعام واحد. كان يحمل نفس الاسم.

من مفارقات القدر القاسية أنه بعد أن كرس حياته للتنظير للوحدة العربية، رحل عن الحياة وهو يشاهد سوريا تتمزق بسواطير الحرب الأهلية الطائفية. لم يكن الحال كما حدث في بلد الأرز حيث مرت البلاد بتجربة الحرب الأهلية المريرة خمسة عشر عامًا، بل تحولت سوريا بالإضافة لذلك إلى لعبة في يد القوى الدولية، وهي من تحدد مصيرها.

كان يؤكد بشدة على أن مشروع الوحدة ليس فقط عملًا ذاتيًا إراديًا يعتمد على الوعي، بل عمل يرتبط نجاحه بوجود «وضعية وحدوية» تجعل من الممكن الانتقال من حالة التجزئة إلى حالة الوحدة.

هذه الوضعية تتمثل في القوانين التي كانت تعيد ذاتها في تجارب التاريخ الوحدوية وتهيمن عليها. كان نديم البيطار يحددها في قوانين أساسية وأخرى إعدادية. كان أهم القوانين الأساسية هو قانون الإقليم – القاعدة.

رأى أن هذا القانون هو الذي يحرك القوانين الأخرى ويكشف عن إمكانياتها الوحدوية ويستقطب فاعليتها. لم يكتسب مشروعه الفكري عن الوحدة صفة العلمية العقلانية من فراغ. كان المشروع ينطلق في أساسه من تحويل «التبشيرية» التي يتسم بها المشروع القومي العربي، والتي تقوم على العمل الذاتي الإرادي متسببة في تخبط العمل العربي وضياع قواه، إلى «العلمية» الموضوعية التي توفر له القدرة والفعالية على التحكم بالتحولات والأحداث التي يتفاعل معها.

بعد النكسة بعام قال له صديق ناصري متحول إلى الماركسية «شو قصتك يا نديم؟ منذ العام 56 وأنت تدعو للارتباط بالقاهرة الناصرية. ألا ترى أن الوقت قد حان بعد هذه المدة الطويلة لأن تغير موقفك».

كان جواب البيطار له «هذا الارتباط يا أخي الذي أدعو إليه ليس قميصًا ممزقًا أو ثوبًا عتيقًا، أو طعامًا تعفن بمرور الوقت يجب التخلص منه». لم يفهم الصديق أن البيطار كان ينطلق من نظرية وحدوية علمية. كانت مصر هي الإقليم – القاعدة التي تقود العمل العربي، لهذا كان ارتباطه بالقاهرة مستقرًا ثابتًا، وليس مسألة انفعالية ذاتية تتغير مع الوقت.

نفس التفكير العلمي الموضوعي جعله لا يعلق أملًا كبيرًا على الفلسفة في حل الإشكالات السياسية الاجتماعية للوطن العربي. كان ينقل عن هيجل قوله: إن الفلسفة تأتي دائمًا متأخرة في إصلاح العالم.

لم يكن فكره القومي الوحدوي علميًا فقط، بل كان تنويريًا ثوريًا مقاومًا مع ذلك. ثوريًا على الأوضاع الداخلية للدول العربية من ناحية، هذه الأوضاع التي رآها عائقًا للعمل الوحدوي. وثوريًا على السياسة الأمريكية الصهيونية التي قسمت العالم العربي من ناحية ثانية. كان حريصًا على فكرة أهمية معركة فلسطين من زاوية وحدوية.

كان له رأي آخر في حرب العصابات التي كانت تخوضها منظمة التحرير الفلسطينية ضد الكيان الصهيوني، لا العوامل الجغرافية والطبوجرافية والديموجرافية تسمح بخوض هذا النوع من الحروب كما كان الحال في الصين والجزائر وفيتنام. استشرف وقتها من رؤيته العلمية أن حرب التحرير الشعبية محكوم عليها بالفشل في الحالة الفلسطينية.

كان يقول بعد فشل الوحدة المصرية السورية «أسمي الرحلة منذ العام 61 إلى اليوم مرحلة الهزائم والنكبات، نتحرك في مكاننا ونتلقى الضربات ضربة ضربة، وعندما نخوض معركة ما ننهزم أو نحيد».

كانت الهزائم والنكبات مرحلة سابقة عاصرها وعبر عنها البيطار، أما الآن فالعالم العربي في مرحلة الطريق للخروج من التاريخ. أول خطوة في هذه المرحلة هي ما تعرف بصفقة القرن التي يجب أن ترفضها وتقاومها الشعوب العربية. لكن مرة أخرى لا مقاومة بلا وعي كما حدد البيطار.

الوعي بأبعاد وخطط هذه الصفقة هو حق أصيل لكل عربي. أما تآمر الحكام العرب على بلدانهم وشعوبهم في السر لكي يحتفظوا بكراسيهم فهذا هو الكفيل بإطاحتهم منها جزاء وفاقًا على خيانتهم.


هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد