“لا يمكن أن تمحو العنصرية من الوجود؛ فهي كالسيجارة، لا يمكنك أن تتوقّف عن التدخين إذا لم تكن تريد ذلك، ولا يمكنك التوقّف عن العنصرية إذا لم يُرد الناس ذلك. ولكن، سأفعل كل ما بوسعي للمساعدة”.
لاعب كرة القدم الإيطالي ماريو بالوتيلي
(1)
قبل أيام قليلة، أصدرت محكمة القضاء الإداري بالإسكندرية، حكمًا “تاريخيًا”، يتمثّل في إلغاء الاحتفال بمولد الحاخام اليهودي يعقوب أبي حصيرة نهائيًا بالبلاد، وذلك بعد مرور 13 عامًا من تداول القضية أمام القضاء المصري!
وبغض الطرف عن “قِصر” مدة تداول القضية أمام المحاكم المصرية، جاء قرار محكمة القضاء الإداري ضربة قاصمة لقرار وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني، والذي اعتبر قبر أبو حصيرة من الآثار المصرية مثله مثل المزارات السياحية الأخرى.
الحاخام اليهودي أبو حصيرة من أصل مغربي، لا ينتمي من قريب أو من بعيد لدولة إسرائيل؛ فقد توفّى عام 1880؛ حيث دُفن في قرية “دميتوه” في محافظة البحيرة، وكان يقام سنويًا احتفالٌ في تلك القرية بميلاد أبي حصيرة، يزوره الآلاف من اليهود من دول المغرب وفرنسا وإسرائيل، كما أن الطائفة اليهودية المصرية كانت تحتفل بهذا المولد قبل عام 1945، كما تم الاتفاق على تحويل المقبرة إلى ضريح، ثم طالب اليهود بعد توقيع اتفاقية كامب دايفيد بين مصر وإسرائيل عام 1979 بتنظيم رحلات رسمية سنوية للاحتفال بمولد أبو حصيرة الذي يستمر أسبوعًا.
وبطبيعة الحال، كل ذلك يتم بالتنسيق مع السلطات المصرية؛ حيث يَحرس ويؤمّن مئات إن لم يَكن آلاف من الجنود المصرية زوّار هذا الاحتفال السنوي بمحافظة البحيرة. وكان العديد من القوى السياسية والحزبية والشعبية المصرية قد رفضت إقامة هذا الاحتفال بداع أنه يجسّد “تطبيعًا” مع الكيان الصهيوني، كما يَشهد سلوكيات ومظاهر سلبية لا تتناسب مع المجتمع المصري وتقاليده، وفقًا لهذه القوى السياسية والحزبية!
يُشار إلى أن طقوس هذا المولد الرسمية تتمثّل في تناول الفاكهة المجففة وزبدة وفطير كما يتضمّن أسلوب الاحتفال الجلوس عند المقبرة، والبكاء وتلاوة أدعية دينية يهودية وذبح الأضحيات عند الضريح حسب الشريعة اليهودية!
ولكن، يَذهب البعض إلى أن طقوس الاحتفال بالمولد تتضمّن كذلك شُرب الخمور وسَكب بعضها فوق المقبرة قبل أن يلعقها المُريدون، والرقص على بعض الأنغام اليهودية بشكل هستيري بعد تمزيق الملابس!
وبعيدًا عن كيفية حدوث مثل تلك الطقوس “الشاذة” في ظلّ وجود قوة أمنية كبيرة تحوم حول المكان اللهم إلا إذا أنهم قد تلقّوا أوامر بعدم الاعتراض على أيّ من هذه الطقوس مهما كانت تخالف القوانين المحلية، وبعيدًا عن أن يهود إسرائيل ليسوا الوحيدين الذين يقومون بزيارة هذا المولد سنويًا بل هناك يهود من المغرب ومن العديد من الدول الأوروبية ويَدخلون مصر بتأشيرة سياحة عادية بخلاف الطائفة اليهودية المصرية.
وبعيدًا أيضًا عن أن العديد من الموالد ببلاد المحروسة مثل مولد السيدة زينب ومولد السيدة نفيسة بهما طقوس أبعد كل البعد عن الطابع الديني كما يتم الترويج فيها للدعارة وشرب الشيشة والتحرش بالفتيات وغيرها من الموبقات ولا يتم منعها إطلاقًا، ومع ذلك فإن حكم محكمة القضاء الإداري بالإسكندرية لم تَلغ الاحتفال بمولد أبو حصيرة نهائيًا فحسب، بل منعت كذلك نقل رفات أبو حصيرة إلى القدس الشرقية بناءً على طلب إسرائيلي!
ووَصف الدكتور “يونس مخيون”، رئيس حزب النور، حكم منع إقامة مولد أبو حصيرة، بأنه “كابوس وانزاح من على صدور المصريين”، مؤكدًا أن السماح بإقامة هذا المولد “من سوءات نظام المخلوع الذى جعل أرض مصر مستباحة لبني صهيون.”
حقًا، إننا شعب متديّن بطبعه يَكره العنصرية، ويَعرف التفرقة جيدًا بين كل ما هو ديني وآخر سياسي!
(2)
أثار منع الرقابة المصرية على المصنّفات الفنية عَرض فيلم “ريدلي سكوت” الأخير “الخروج.. آلهة وملوك” بدور العرض المصرية جدلاً واسعًا في الفترة الأخيرة.
الأستاذ “عبد الستار فتحي”، رئيس الرقابة على المصنّفات الفنية، يرى أن الرقابة تعاملت مع هذا الفيلم مثل أي فيلم أجنبي آخر يُعرض على جهاز الرقابة، مضيفًا أن الجهاز لا يعترض على حرية الإبداع، انطلاقًا من أن الفيلم يحمل رؤية خاصة لمخرجه، ولكنّ احتواءه على العديد من المغالطات التاريخية والدينية حال دون عرضه!
وبعيدًا عن أن الفيلم قد تم تصوير العديد من مشاهده في مصر، وبموافقة كافة الأجهزة الأمنية وأيضًا وزارة الثقافة وجهاز الرقابة وغيرها، إلا أن وزارة الثقافة المصرية أصدرت بيانًا تقول فيه إن محتوى ومضمون الفيلم به مغالطات تاريخية عن مصر، أهمها أنه يُرجع بناء الأهرامات إلى اليهود!
واعترف البيان الرسمي كذلك بأن الفيلم وطاقم تصويره قد حصلا على تسهيلات كبيرة لعرض الفيلم في مصر بهدف جلب الاستثمارات الأجنبية والترويج السياحي لمصر، ولكن “الشركة المنتجة للفيلم تعمّدت إخفاء معلومات حول قصة وسيناريو الفيلم، كما قدّمت بضع وريقات قليلة بغرض تصوير فيلم سياحي عن مصر، يتكون من عدة مشاهد بدون أشخاص، ولم تقدّم الشركة النص الأصلي لسيناريو الفيلم، وبناءً عليه، تم منحها الترخيص بالتصوير داخل مصر، وقامت بتصوير مشاهد الفيلم الحقيقية خِلسة!”
حقيقة، لا أعرف كيف يمكن تصوير فيلم بهذا الحجم “خِلسة”، اللهم إلا إذا كان طاقم التصوير كله كان يَلبس “طاقية الإخفاء”، وكيف لا يَعرف المسؤولون في مصر أن إلغاء عرض الفيلم بعد موافقة كافة الجهات المعنية بتصويره بالبلاد، سيسبّب هروب الاستثمارات الأجنبية وسيعطي صورة سلبية عن السياحة في مصر، والترويج بأنها بلد عنصري غير متمدين أكثر من كتاب سيناريو الفيلم أنفسهم الذين أظهروا المصريين على أنهم متوحّشون يقتلون يهود موسى ويشنقونهم!
وكان الأوْلَى مثلاً منع الجمهور القاصر دون السادسة عشرة من مشاهدة الفيلم حتى لا يفهموا مضمون الفيلم بطريقة سيئة، لاسيما وأن الجميع سيحاول تحميل الفيلم من على مواقع الإنترنت المختلفة مثلما حَدث مع أفلام أخرى في الفترة الأخيرة مثل “نوح” و”حلاوة روح” وغيرهما!
الغريب أيضًا، وانطلاقًا من أننا شعب متديّن بطبعه، لم يَعترض مسؤولو الأجهزة الرقابية في مصر عن فكرة تجسيد نبي الله موسى بالفيلم أو إنكار الفيلم لمعجزة شق البحر بعصا النبي موسى بدرجة كبيرة، وإنما كان الغضب الأكبر من “تزييف الحقائق التاريخية والمغالطات الفادحة” للفيلم، و…
وفوق هذا وذاك، “استغفال” طاقم تصوير الفيلم لمسؤولي وزارة الثقافة وتصوير مشاهد عديدة منه “خِلسة”، مثلما أشار بيان الوزارة!
(3)
تعجّبت، لوهلة بسيطة لم تدم طويلاً، وأنا أقرأ خبر مَنع السويد لعَلم البلاد القومي ورفعه في المدارس الابتدائية، لأن العَلم – الذي يَحوي صليبًا أصفر اللون على خلفية زرقاء – ربما يكون مُهينًا أو جارحًا لبعض الجماعات كما أنه يخرق قانون (إهانة الجماعات العِرقية)”.
بدأ الأمر كله، ومثل أفلام الخيال العلمي وكتابات دكتور أحمد خالد توفيق في سلسلة “ما وراء الطبيعة”، عندما جرى إقامة حفلة تنكّرية بإحدى المدارس السويدية واختار أحد الطلاب طلاء وجهه باللونين الأصفر والأزرق وهما لونا العَلم السويدي، كما قام الطالب نفسه بجَلب مسدس لعبة لهذه الحفلة التنكّرية!
وفي سيناريو ليس بالبعيد عن مسؤولي المدارس الحكومية المصرية – بعد أن يتم غزو البلاد بكائنات مريخية تستحوذ على أجساد هؤلاء المسؤولين – تفاعل مسؤولو المدرسة السويدية بحزم وصرامة مع الأمر وقاموا بمَنع وتحريم العَلَم السويدي وألعاب الأسلحة، معلّلين بأن هذا سيساهم في عدم تفاقم الأمر، لأن استخدام العَلم السويدي قد يؤدي بحامله إلى ارتكاب جريمة خرق وانتهاك قانون العنصرية، كما أن المَنع أيضًا يطال الرسومات والصور المدرسية التي يجب أن تكون “خالية من أيّة رموز قومية أو وطنية،” على حد قول مسؤولي المدرسة!
وبات الأمر قاصرًا في حَمل الأعلام الوطنية السويدية على اليوم القومي للبلاد أو عندما يتم دعوة طلاب أجانب للمدارس الحكومية، عدا ذلك يُمنع منعًا باتًا حَمل الأعلام الوطنية بالمدارس الحكومية!
نعم، في السويد عندهم مسؤولون “زي عنديييينا”، مع الاعتذار للممثل أحمد مكي!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست