مع موت الكاتبة والطبيبة المصرية نوال السعداوي، وكلما رحل عنا أحد مشاهير الفكر والعلم، يطالعنا على مواقع التواصل الاجتماعي بعض الآراء والتعاليق، لشخصيات مؤثرة، لها جمهورها وأتباعها، ويقع السجال بين المرجعيات، فئة تترحم وأخرى تكفر وتلعن من يترحم، ثم آخرون يقطعون حكمًا بأن الهالك في الدرك الأسفل من النار، وهؤلاء نجدهم غالبًا من رموز السلفية وأتباعها، إذ لا يجدون عادة أي طريقة لتدبير الخلاف، غير التكفير. هذا لأن الفقيدة كانت لها آراء في الدين، بعضها شاذ، وبعضها يشكل ناقوس خطر وجب الوقوف عنده، وكلها مواقف لم تتعدى الفكر إلى الفعل.
واعتبارًا بالتاريخ، وسنة النبي، نتذكر مواقف عمر الفاروق قبل إسلامه، وكيف سب هذا الدين وحارب أهله، ونعته بالفتنة التي تفرق بين الأب وابنه، والزوج وزوجه، حتى أنه هم بقتل الرسول، مع ذلك فقد دعا النبي ربه أن يعز الإسلام به، لأن الرجل كانت له مناقب وخصال، فأراد النبي بذلك، أن يكون للإسلام لا عليه، وفضل أن يضمه إلى الدين بدل استعداءه. واليوم أيضا، تقتضي نهضة مجتمعاتنا وجود نساء ورجال بمناقب وخصال، وحيث إن الفقيدة نوال كانت لها همة عالية في الدراسة، وتحصيل ما ينفع البشرية من علم، واعتبارًا لكونها طبيبة على الأقل، إن لم نقل مفكرة وناقدة، أتساءل، هل حاولنا كسبها إلى صفنا؟ هل جربنا ضمها إلينا واحتضانها بيننا؟ من منا رفع أكف الضراعة إلى الله بأن يصلح ما انحرف من آرائها ومعتقداتها؟ كل ما أنتجته الردود على كلامها سب وشتم، عجوز شمطاء! أنظر إلى شكلها! قاتلها الله! كمية من العنف الرمزي واللفظي في المواقع والقنوات، تصدر عن مجتمع معاق فكريًا ومشوه ثقافيًا وقيميًا، حتى إذا توفاها الله، ارتفعت أكف الدعاء أن ينزل بها أشد العذاب لأنها حسب ظنهم كافرة.
وعلى ذكر موضوع الكفر، هناك رأي في التكفير لشيخ الأزهر الشريف، السيد محمود شلتوت، ويا ليت مثل هذا الرأي، صدر عن مؤسسة فقهية تملأ الفراغ، وتؤطر النقاش، وتحد من تهافت من استثمروا في أذقان وجوههم ثم سموا أنفسهم علماء! السيد شلتوت يقول فيما معناه، الكفر ليست مسألة بين الناس، أو يعود حكمها وتقديرها إليهم، بل مسألة بين الله والعبد، ويعود حكمها وتقديرها إلى الله، وأن الكافر هو كافر عند الله، ثم يزيد موضحًا، الكافر من بلغته الرسالة وأيقن حقيقتها في قرارة نفسه، وترجح في عقله صدقها وصحتها، ثم أنكر وجاهر بإنكاره، وأسند الشيخ رأيه بالآية التالية: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا. وزاد على ذلك قائلًا، إنه لا يعتبر كافرًا من بلغته الرسالة محرفة أو بشكل منفر، أو كان من أهل الرأي والنظر، ولم يزل ينظر ويتحقق ويتحرى، فمات على ذلك، فلا يكتب عند الله كافرًا. هذا الرأي يبرز بشكل كبير سماحة الإسلام، ومثله من الآراء، لا تسلط عليه الأضواء الكاشفة أو تصوب جهته الكاميرات، ولا تسخر له الإمكانات الإعلامية والقنوات، كالتي سخرت لغيره من الآراء التكفيرية التي أنضجت الفكر الظلامي، وألهمت التنظيمات الإرهابية والجماعات الداعشية.
ما عاب هؤلاء التكفيريون «العلماء» على الفقيدة نوال السعداوي، هو بعض المواقف والمقولات، مثل اعترافها بصريح العبارة أنها مسلمة بالوراثة والمصادفة، أو عبارة استقالة الإله في القمة العربية، هذه الأقوال برأيي لها معنى عميق، ولا يجب تناولها بسطحية. إذ إننا نحن معشر المسلمين، استقر في فهمنا ما معناه أننا أحباء الله وخاصته، اختصنا بجنته دونا عن باقي الأمم، وأتباع المعتقدات الأخرى من مسيحيين ويهود وغيره، كلهم مخلدون في النار، هكذا أصبحنا في هذا العصر مسلمين فقط بالانتماء إلى شيء يشبه الزمرة أو القبيلة، وكأن الإسلام لقب أو علامة تجارية يحملها المسلمون، دون أن يأتوا بفعل الإسلام.
اليوم نجد أن المسلم استقال من وظيفته، وهذا ما استشعرته نوال السعداوي، وعبرت عنه بتعبير شاذ، فيه جرأة على الله، فاستقالة الإله تعني بها كف الله عن نصرة المسلمين، والحقيقة أنهم (أي المسلمون) كفوا عن القيام بأسباب الانتصار، ليس بمعنى الهيمنة ورفع راية قوم أو طائفة وإخضاع باقي الأمم، وإدخالهم تحت رايتهم. إنما النصر هو الاضطلاع بالدور الحقيقي للمسلم، وهو خلافة الله على الأرض، وإصلاحها وعمارتها.
خلافة الله على الأرض، هو الوعد الصادق والنصر الموعود، هو المهمة التي تزعمتها المؤسسات الدولية التي ترعى النظام العالمي القائم، والأمانة التي أخفقت في الحفاظ عليها منظمات كالأمم المتحدة ومجلس الأمن، فضاعت الحقوق، واختلت الموازين، وعم التقتيل وسفك الدماء، واستحوذت فئة قليلة على موارد الأرض، وانتشر البؤس في باقي البقاع، ومهما بلغنا من تقدم تكنولوجي ورفاهية، فلا يمكن الحديث عن حضارة ورقي بشري، مادام على الأرض مضطهدون ومجاعات وأمراض سوء التغذية، وأوضاع حاطة من القيمة والكرامة البشرية، حتى البيئة والطبيعة، لم توافق على سلوك الإنسان، فظهرت تشوهات خلقية بسبب مخلفات ونفايات الحروب، وتغير في المناخ نتيجة التلوث والانبعاثات.
إن سعي الإنسان إلى إقامة مؤسسة الخلافة، ذات الطابع الحداثي، التي تعيد العدل إلى نصابه، وتعلي كلمة الحق، وتنشر السلام على الأرض، وتحقن دماء العباد، وتنتصر للإنسان بما هو إنسان وكفى، دون اعتبار لطائفته أو عرقه ولونه، مؤسسة بالقوة التي تحد من التلوث على كوكب الأرض، وتحفظ البيئة والمناخ، وبالنجاعة والخبرة، لتدير اقتصادًا يضمن توزيعًا عادلًا للثروات، ويحفظ كرامة كل الناس.. إن هذا السعي هو ما يكرم الإنسان عند الله، ولا يستطيع بلوغ هذا الأمر أحد، إلا بالخضوع المطلق لله، وتحقيق العبودية الخالصة له وحده، على منهج سوي وقويم، أما الطقوس التعبدية، فيستعان بها على هذا الأمر. هذا هو التكليف الذي يقع على عاتق المسلمين، هذا ما اختص الله به أمة محمد، وجعلها خير أمة أخرجت للناس، وميزها عن سائر الأمم. أما الجنة والنار فللجميع، من أمة محمد من سيدخل النار والعياذ بالله، ومن الأمم الأخرى من يدخل الجنة، فلا يقلق أحد ولا يغتر بنفسه.
أما قولها عن الحج بأنه طقوس وثنية، فكذلك قال عمر، عن تقبيل الحجر الأسود، ولولا أنه رأى النبي يفعل ذلك ما فعله، وهذا مذهب كل النقاد، بدأ بإبراهيم الخليل، حيث ينطلقون من الشك والتساؤل، فيبحرون في خضم الفكر وملكوت العقل، لترسو مراكبهم في الأخير، على مرافئ الإيمان واليقين.
لهذا عزيزي المسلم، لا تحمل هم الدفاع عن الله في عليائه، والتدخل في حكم الجنة والنار، ولكن احرص على إقامة كلمة الله وعدله وشرعه على الأرض، في نفسك، محيطك، بيتك، مدرستك وعملك ومسؤولياتك، هذه هي رسالتك.
على الأقل نوال دقت ناقوس الخطر، واعترفت بصدق وشجاعة، بأنها مسلمة بالمصادفة والوراثة، لما رأت استقالة المسلم من دوره، أما نحن فأسقطنا التكليف وأبقينا التشريف، انغمسنا في الجهل، وأصابنا الضعف والوهن، نعيش في غفلة، عاكفون على اللهو والمباريات، مخدرون بذكريات الماضي التليد وأمجاد الأجداد والآباء، غارقون في سكرة الوهم حتى الثمالة، بأننا الأفضل عند الله.
وفي الأخير، نوجه النداء إلى الفقهاء الأفاضل، عوض الانخراط في شتيمة الملحدين والعلماء والمفكرين والباحثين، والجواب عن حكم الجنة والنار، نطلب منهم أن يعكفوا على مراجعة المنظومة الفقهية التي يسندون عليها أحكامهم، وتمحيص القرآن، وإعادة قراءة السنة النبوية الشريفة، وأثر السلف الصالح، قراءة حديثة على ضوء العالم الذي نعيش، بما يتيح بناء مؤسسات حديثة، تضطلع بالإجابة عن الإشكاليات المعاصرة، وما رافق الثورة العلمية والتكنولوجيا الرقمية، من مستجدات اجتماعية واقتصادية، ولا تحدثوننا في القنوات عن منهج محمدي قويم وسليم، ما لم يفضي هذا المنهج إلى إنتاج نموذج مجتمعي ناجح، يحقق ما ذكرنا عن خلافة الله في الأرض. ورجاءا، عدم القدح في أهل العلم والفكر، أيًا كان جنسهم ومعتقدهم، قد يشفع لهم علمهم، فهم شموع لا تنطفئ، لا يدرك نورها إلا من أوتي الفهم والبصيرة، وكان له قلب وألقى السمع وهو شهيد. فلترقد روحك بسلام يا نوال، أنت وكل من سار على درب العلم والمعرفة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست