بنهاية القرن الماضي؛ أطلق الجيش الإسرائيلي عملية «عناقيد الغضب» صوب لبنان بهدف الضغط على الحكومة اللبنانية لكبح جماح حزب الله، والمتعاونين معه فى الجنوب، ووقف الهجمات الصاروخية للحزب على شمال إسرائيل. استمرت العملية 16 يومًا وانتهت بما يعرف ب «اتفاق نيسان» 1996 برعاية أمريكية وتدخل أممي، أصدر مجلس الأمن على إثره القرار رقم 1052 الذي يقضى بوقف إطلاق النار.
بعد عشر سنوات من هذا التاريخ دخلت لبنان فى حرب أخرى مع إسرائيل فيما يعرف بـ«حرب تموز» 2006 ، والتي استمرت بشراسة لأكثر من شهر بين حزب الله، والجيش الإسرائيلي. والسبب فى تلك الحرب أسر الحزب لجنديين من الصهاينة ؛ بغرض تحرير لبنانيين ترفض إسرائيل الإفراج عنهم. انتهت الحرب هذه المرة بالقرار 1701 والذى اعتمده مجلس الأمن بالإجماع ، بهدف حل الصراع اللبناني الإسرائيلي من خلال تسوية طويلة الأمد. وقد أبدت الحكومة اللبنانية، وكذلك حزب الله قبولهما بالقرار والالتزام ببنوده ما التزمت بها إسرائيل .
وقد اكتسب الحزب فى غضون هذه الحرب – والتي اعتبر نتائجها «نصرًا إلهيًّا» – زخمًا شعبيًّا وتأييدًا عربيًّا واسعًا نظرًا للخسائر التي تكبدها العدو فى المعركة، وبدت كبيرة. قاتل الحزب حينها عدوًّا مشتركًا، فاحتضنته الجماهير العربية رغم الآلام والمجازر التي ارتكبت بحق الشعب اللبنانى وتدمير بنيته التحتية خاصةً فى الضاحية الجنوبية. والجدير بالذكر أن الحزب قد فقد جزءًا لا يستهان به من هذه القاعدة الشعبية بعد ثورات الربيع العربى، وقتاله إلى جانب النظام السوري، وارتكابه جرائم حرب بحق السُّنة فى سوريا وأكثر من بلد عربى.
وبالعودة إلى «حرب تموز» والنتائج الأخرى التى تمخضت عنها بالنسبة للحزب؛ فنجده قد تمكن من الدخول فى مفاوضات جادة مع المجتمع الدولى أدت إلى الاعتراف به كطرف رئيس فى يده حل عقدة الصراع. ليس هذا فحسب بل ازداد نفوذ الحزب داخليًّا وخارجيًّا بشكل ملحوظ أدى إلى تربعه على المشهد السياسى اللبنانى بالكامل وسيطرته على مراكز صنع القرار. ومنذ ذلك الحين استخدم الحزب ترسانته الحربية لحماية مشروعه وحلفائه وتوسيع نفوذ مليشياته ، وأصبح سلاحه مشرعًا فى وجه الجميع إلا إسرائيل .
أما المجتمع الدولى فقد وجد ضالته المنشودة فى تلك الحرب؛ بحيث جعلها فرصةً ذهبيةً لإنجاز تسوية مثالية تفضي فى النهاية إلى قطع أشواط طويلة فى الصراع العربى الإسرائيلي، بالشكل الذى يرضي إسرائيل. فقد استخدم الغرب الحرب لتسليط الضوء بكثافة غير معتادة على الصراع فى لبنان، والتأكيد على رغبة المجتمع الدولى فى إنهاء ذلك الصراع وكونه لن يتمكن من مساعدة لبنان طالما ظل الصراع مستمرًا. ومن جانبها أكدت كونداليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية حينها على وقوفها غير المشروط إلى جانب إسرائيل وحقها فى الدفاع عن النفس، لكنها في الوقت نفسه كانت تطمح فى إحلال السلام من خلال معالجة بذور العنف لخلق ما اسمته بـ«شرق أوسط جديد».
ومن ثم كانت «حرب تموز» بداية النهاية لمشروعٍّ عسكريًٍّ واضح كان الحزب يتبناه لتسويق نفسه فى المنطقة العربية، فهل يتكرر حاليًا السيناريو نفسه مع الفصائل وحركة حماس داخل قطاع غزة ؟ (سيطرت حماس على القطاع بعد عام واحد تقريبًا من سيطرة حزب الله على المشهد السياسي فى لبنان والالتزام بالقرار 1701. وقد جاءت تلك السيطرة بعد انسحاب مفاجئ لقادة فتح وسقوط مدوٍّ وسريع لعناصر السلطة فى منتصف يونيو 2007).
ونحن إذا ما أردنا استقراء الأحداث في فلسطين يمكننا أن نقيسها على سابقتها فى لبنان خاصةً، وأن التشابه بينهما قد يبدو كبيرًا. فالتصريحات المتلاحقة لصانعي القرار فى أمريكا وأوروبا خلال هذه الأحداث توضح لنا بما لا يدع مجالًا للشك، ما يرتبونه من سنوات لتكرار ما حدث فى لبنان وتصفية الصراع العربي الإسرائيلي من خلال ما يسمى بصفقة القرن، لكن فاتهم أن فلسطين ليست لبنان وأن للقدس والأقصى مكانة لايقدرونها فى قلب وعقل كل مسلم، وأنها تخصُّ كل المسلمين وليس شعبًا أو فصيلًا بعينه كما يدَّعون وفقًا لمفاهيم قطرية يحاولون ترسيخها دون جدوى.
ومن ثم فالدور الآن على حماس والفصائل للإجابة على السؤال السابق: هل تقبلون تكرار سيناريو حزب الله داخل القطاع؟ وهل تفطنون إلى رغبتهم فى استغلال الانتفاضة الأخيرة التى عمَّت كل فلسطين وتحويل نتائجها لتصب فى صالح إسرائيل، تمامًا كما فعلوا مع ثورات الربيع العربى؟ تلك الثورات التى نادت بالتحرر والكرامة فإذا بها تفضي إلى مزيد من اتفاقات التطبيع فى أكثر من بلدٍ عربيٍّ، وما زالت الثورات مستمرة.
هل تقبل حماس أن تكون السكين التى تُذبح بها فلسطين من جديد؟
الضمان الوحيد الذى يمنع تحقيق ذلك هو الوعي الجمعي للشعوب العربية، وأولها أهلنا فى فلسطين؛ فعليهم أن يكونوا فى أول القاطرة التى تقود الأمة وتوقظ عزائمها . فيظل المرابطون مرابطين فى أماكنهم لا يبرحونها فهم حراس الأقصى ورجاله، ويظل المجاهدون أيديهم على سلاحهم لا يفرطون فيه، فمنهم رجال نحسبهم على خير لن يخيبهم الله أبدًا، ولن يسمحوا بضياع دماء الشهداء بلا ثمن. لن يخونوا أو يبيعوا بإذن الله، ونثق فى قدرتهم على إبطال كل المخططات المشبوهة، ويكفي أن يكون سلاحهم هذا بندقية يقظة فى وجه الأعداء، فلا تهمنا كمية أو نوع السلاح ومدى تطوره؛ المهم نوعية البشر الذين يقودون المعركة.
أما الحراك الشعبى داخل فلسطين فلا يجب أن يهدأ بل يجب أن يتصاعد دون كللٍ أو مللٍ، فلا يتم الاعتماد على مسيرات وحراك خارجي تسير فيه حشود هائلة لا نعرف بالضبط مَن الذى يحركها هذه المرة بالذات، وبهذا الشكل المُلح. ولتظل المبادرة فى يد أهل فلسطين، فيكونون هم الفعل لا ردة الفعل. لا يرضخون لقمع سوف يزداد فى الأيام القادمة بكل تأكيد لتخويفهم وإرغامهم على السكوت والقبول والنسيان . عليهم أن يظلوا يدًا واحدةً لا تبحث عن إعمار وتشييد وتطاول فى البنيان قبل أن تنتهى جولات الصراع.
وعلى الشعوب العربية جميعها التمسك بالقدس وفلسطين وعدم التفريط فى أي شبر منها فيما يُعرف بحل الدولتين، والذى ترفضه إسرائيل بالمناسبة. قضيتنا قضية وجود لا حدود. قضيتنا فلسطين من البحر إلى النهر. فلا نغفل أو نتغافل عن الأخطار التى تحيط بنا من كل جانب؛ فعلينا أن نتحرك ولا ننخدع بنصرٍ يتم تسويقه لنغرس بعده فى الوحل. فقد انتصرنا قبل ذلك فى 73 وانهزمت إسرائيل، فجاءت معاهدة السلام فى «كامب ديفيد» لتحوِّل نصرنا إلى هزيمة، وهزيمة إسرائيل إلى نصر. فإن كان هذا ما تريدونه من وراء (الانتصار) فكفانا انتصارات.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست