ربما لم يتخيل هو شخصيًا، ولم يدر في خلده ولا في أقصى شطحات أحلامه أنه سيكون يومًا ما صاحب الكلمة العليا بل الوحيدة في البلاد، لكنه القدر، القادر على أن يضع الفشلة ومنعدمي المواهب على رؤوس السلطة.

في 20 أبريل من العام 1889، ولد أدولف هتلر في برونو بالإمبراطورية النمساوية المجرية، لأسرة وضيعة، فقد كان والده “ألويس هتلر” موظفًا بسيطًا في الجمارك، وكانت والدته “كلارا هتلر” الزوجة الثالثة لوالده، وكان هتلر الابن الرابع من أصل ستة أبناء، وعاش طفولة مضطربة للغاية، حيث كان أبوه عنيفًا في معاملته له ولأمه، وكانت السبب المباشر في تعثره في التعليم، وكان كل شيء يوحي بمستقبل مليء بالفشل، وتأثر هتلر منذ طفولته بروح التحيز الديني التقليدية التي كانت سائدة في فيينا في تلك الفترة، وورد على لسان أحد أصدقاء طفولته وهو “أوجست كوبزيك” أن ميول هتلر في معاداة اليهود قد ظهرت قبل أن يغادر مدينة “لينز” في النمسا، وأنه كان ينتظر “حتى ينضج ويصبح قادرًا على التخلص منهم”، وأكد هتلر على كلام صديقه عندما صرح لاحقًا أن اعتقاده في وجوب معاداة السامية ظهر لأول مرة في فيينا التي كان تعيش فيها جالية يهودية كبيرة تشتمل على اليهود الأرثوذكس، الذين فروا من المذابح المنظمة التي تعرضوا لها في روسيا.

بدءًا من عام 1905، عاش هتلر حياة بوهيمية في فيينا على منحة حكومية لإعانة الأيتام، ودعم مالي كانت والدته تقدمه له، وتم رفض قبوله في أكاديمية الفنون الجميلة في فيينا في عام 1907 لأنه “غير مناسب لمجال الرسم”، وعندما كان في الحادية والعشرين من عمره، حاول أن يشق طريقه بجهد كرسام في فيينا، حيث كان ينسخ المناظر الطبيعية الموجودة على البطاقات البريدية ويبيع لوحاته إلى التجار والسائحين لكنه فشل أيضًا، وبحلول عام 1909، كان ماله كله قد نفذ، فعاش هتلر في مأوى للمشردين، ومع بداية عام 1910، كان هتلر قد استقر في منزل يسكن فيه الفقراء من العمال في Meldemannstraße

تطوع هتلر في الحرب العالمية الأولى مع الفوج البافاري الاحتياطي السادس عشر، وانتهت الحرب بتقلده رتبة “جيفريتر”، وهي رتبة تعادل وكيل عريف في الجيش البريطاني، وتقلد هتلر وسامين تقديرًا لشجاعته في الحرب، حيث تقلد وسام الصليب الحديدي من الدرجة الثانية في عام 1914، وتقلد أيضًا وسام الصليب الحديدي من الدرجة الأولى في عام 1918، وهو تكريم نادرًا ما يحصل عليه عسكري من رتبة “جيفريتر”، ومع ذلك، لم تتم ترقية هتلر إلى رتبة أعلى نظرًا لكونه يفتقر إلى المهارات القيادية من وجهة نظر قائد الفوج الذي كان ينتمي إليه.

وفي 15 أكتوبر 1918، دخل هتلر إحدى المستشفيات الميدانية على إثر إصابته بعمى مؤقت عقب تعرضه لهجوم بغاز الخردل، ويشير العالم النفسي الإنجليزي “ديفيد لويس” إلى أن إصابة هتلر بالعمى قد تكون نتيجةً إصابته بحالة من الهيستيريا وليس بسبب الغاز، نتيجة شعوره باقتراب الهزيمة، وبعدها بشهر واحد، وقعت ألمانيا بالفعل وثيقة استسلامها في الحرب العالمية الأولى المعروفة بمعاهدة فيرساي، لتتضاعف بسببها صدمة هتلر، وتتدهور حالته النفسية أكثر وأكثر، وبعد تلك الواقعة سيطر على هتلر هاجس أن سبب وجوده في الحياة هو “إنقاذ ألمانيا”، وبدأ يعبر عن تلك الهواجس للمقربين منه.

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، تأثر هتلر بأفكار حزب العمال الألماني DAP المعادية للسامية والقومية، والمناهضة للرأسمالية، فانضم للحزب، واتسعت شعبيته بشدة، وفي بدايات عام  1921، بدأ هتلر يتمكن بشكل كامل من إجادة فن الخطابة أمام الحشود الكبيرة، وفي فبراير من نفس العام، تحدث هتلر أمام حشد يضم حوالي ستة آلاف فرد في ميونيخ، مثبتًا قدرة إعجازية على الإقناع، وفي محاولة لزيادة شعبية الحزب، قام الحزب بتغيير اسمه إلى “حزب العمال الألماني الاشتراكي الوطني Nationalsozialistische Deutsche Arbeiterpartei” الذي يعرف اختصارًا باسم NAZI، وفي اجتماع الحزب الذي عقد في التاسع والعشرين من يوليو 1921، وافق أعضاؤه على طلب هتلر بتولي رئاسة الحزب.

في عام 1923، نفذ هتلر مع ميليشيات الحزب النازي محاولة فاشلة للانقلاب على الحكومة، والاستيلاء على السلطة في بافاريا وألمانيا، سميت بانقلاب “بير هول Beer Hall Putsch” وانتهت المحاولة بالفشل الذريع، وسجن رئيس الحزب النازي آنذاك أدولف هتلر، وتم حظر نشاط حزب العمال الألماني الاشتراكي الوطني وأعضائه في بافاريا، ومع ذلك فلم يمر كثير من الوقت حتى أطلق سراحه، وبدأ من جديد محاولة قوية للوصول للسلطة بشكل رسمي.

كان العامل الرئيسي في ازدياد شعبية هتلر بين الناس، هو قدرته على استدعاء روح العزة الوطنية التي عرضتها معاهدة فيرساي للمهانة، والتي فرضها الحلفاء الغربيون على الإمبراطورية الألمانية المهزومة، وحاول هتلر أن يكسب تأييد الجماهير لسياساته، عن طريق إقناع معظم الشعب الألماني بأنه المخلص الذي من سينقذهم من موجة الكساد الاقتصادي التي اجتاحت العالم، ومن معاهدة فيرساي الظالمة، ومن الشيوعيين واليهود، اللذين اعتبرهم هتلر السبب في كل الفشل الذي واجهته الإمبراطورية الألمانية، وفي هزيمتها في الحرب العالمية الأولى.

واستطاع هتلر من خلال الكاريزما والجاذبية التي يتمتع بها في إلقاء الخطب وفي الدعاية، أن يحصل على تأييد الجماهير بتشجيعه لأفكار تأييد القومية ومعاداة الشيوعية ، وهكذا أصبح هتلر في غفلة من زمان مستشار الرايخ الثالث، وصاحب السلطة الوحيد والأوحد في ألمانيا، وقبض هتلر على السلطة بيد من حديد، من خلال الجناح شبه العسكري للحزب النازي المعروف باسم “كتيبة العاصفة”، ووحدة الـ “إس إس” ، والبوليس السري الألماني الرهيب المعروف بالـ “جستابو”، وسحق هتلر المعارضة سحقـًا بحجة حماية الدولة من الإخطار والمؤامرات الخارجية، وغير القضاء الألماني الشامخ القانون، بصورة تجعل الجستابو يتحرك بصورة حرة وبعيدًا عن المساءلة القانونية، وكما وصف قاضي ألماني أفعال الجستابو قائلاً “طالما يتحرك الجستابو بمشيئة الحزب، فإن حركات الجستابو وأفعاله قانونية”، ونص القانون الألماني نصًا صريحًا بإعفاء الجستابو من المثول أمام المحاكم الألمانية، مما حال بين المواطنين المدنيين ووصول شكواهم إلى القضاء الألماني الشامخ.

ولعل من أهم صور تعسف الجستابو هي سلطة الجهاز في احتجاز الأشخاص وإخفاءهم قسريًا بدون دعوى قضائية، بل أن الشخص المحتجز كان يجبر، عن طريق التعذيب الجسدي، على التوقيع على ورقة تخوّل الجستابو على احتجازه، وساهم الجستابو في القبض على الشيوعيين واليهود والمثليين وتهجيرهم قسريًا إلى معسكرات الاعتقال ثم القضاء عليهم في أفران الغاز التي لقبت بمذابح الهولوكوست، وسط مباركة الشعب الألماني.

وبالرغم من قامته القصيرة نسبيًا ودمامته الواضحة، وبالرغم من وسط بنطاله الذي يكاد يصل حتى رقبته، وبالرغم من طريقته المضحكة في الخطابة، تلك التي خلبت عقول الشعب الألماني، فقد صار هتلر معشوق النساء في ألمانيا بدون سبب واضح، اللهم الولع بسفك الدماء ولا شيء سواه، واعتبرته نساء كثيرات “الرجل المرسل من السماء، والرجل الكامل الأسمى”، ومع نهاية الثلاثينيات وتصاعد جنون هتلر وبطشه، بدأت تنهال عليه الرسائل الحميمية، فأرسلت له مثلاً من الإسكندرية البارونة “ألزاهاغن فون كيلفاين” تقول: “أتمنى أحيانًا لو أموت وصورتك أمامي، لكيلا أبصر بعد ذلك أي شيء غيرك، إنني أكتب إلى الرجل الذي أهوى، وسأتبع حتى نهاية حياتي”، وأرسلت له “داغمار راسل” قائلة: “أنت الرجل الذي أحببته حبًا جمًا، الأشرف والأعظم والأبدع، الذي لا مثيل له والعبقري، المرسل من الله، المقدس، والمحبوب من الله، رسول السلام السماوي، المنفذ للمشيئة الإلهية على الأرض، الجندي الأول والقائد الأعلى لهذا الجيش الرائع، الخبير الاستراتيجي الذي يفوق كل من سبقه في التاريخ عبقرية وهيبة، رئيس الدولة النابغة الأكبر”.

تصاعد جنون الإعجاب العارم بهتلر، ونجاحاته الحربية المتوالية، أصابته بنوع من جنون العظمة، وجعلته يتخذ قراراه في أغسطس 1938، بإنشاء العاصمة الجديدة للعالم ومقرها ألمانيا تخليدًا لاسمه، وأسماها بـ “جرمانيا عاصمة العالم Welthauptstadt Germania”، وأسند تخطيط العاصمة الجديدة لمهندس الرايخ الثالث الشهير “ألبرت شبير”، لكن لم يقدر لتلك العاصمة أن ترى النور، وظل المشروع برمته حبرًا على ورق، ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية التي أشعلها هتلر بجنونه، تصاعدت ضده حركات المعارضة، وأشهرها كانت حركة “الوردة البيضاء Weiße Rose”، وقوبلت الحركة بعنف فاق الوصف من قبل السلطة، وأعدم جميع أعضاء الحركة بتهمة معارضة النظام، ومع منتصف عام 1943 بات واضحًا للجميع أن هذا النظام في طريقه للهلاك، إلا أن المؤيدين لهتلر وهم الأغلبية، ظلوا ثابتين على موقفهم، حتى بالرغم من تدهور الأحوال الاقتصادية بشدة، رافضين أن يصدقوا أن هذا النظام سوف يجرهم جميعًا للهلاك ويقضي على ألمانيا كلها، وفي 18 فبراير 1943 ألقى فيه وزير الدعاية النازي “جوزيف جوبلز” خطابه على الشعب الألماني مطالبًا إياه أن يتحمل ويلات الحرب والكساد والتضييق الأمني أملًا في الاستقرار القادم، وسط ترحيب شعبي عارم.

بحلول عام 1944، بدأت سلسلة متوالية من الهزائم تنهال على الجيش الألماني، لم يقو هتلر ولا نظامه على وقفها، وفي الثلاثين من أبريل من عام 1945، دخل الجيش الأحمر برلين، وبينما كانت القوات السوفييتية على بعد تقاطع أو اثنين من مقر مستشارية الرايخ، قام هتلر بالانتحار بإطلاق النار داخل فمه وهو يضع في فمه كبسولة سيانيد، ووضع “أوتو جونش” وبعض الضباط المعاونين الموجودين في قبو القائد، جثة هتلر وجثة زوجته إيفا براون في حفرة، وقاموا بسكب كثير من البنزين على الجثتين، وإشعال النار فيهما، بينما كان الجيش الأحمر مستمرًا في تقدمه ممطرًا المدينة بالقنابل، وفي 1 مايو 1945، أقدم جوزيف جوبلز وزير الدعاية النازي على الانتحار مع زوجته ماجدة وأطفاله الستة، فأعطت زوجته السم لأبنائها بنفسها، ثم أقدم هو وزوجته للانتحار خارج المبنى العسكري النازي، وفي الساعة الحادية عشرة وخمس وأربعين دقيقة من ليلة الثامن من مايو عام 1945، قام الجنرال “فيلهلم كايتل” بتوقيع وثيقة الاستسلام الكامل وغير المشروط للجيش الألماني لممثلي دول الحلفاء.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد